الفوضى أقول لكم ما أصعب أنْ يكون لشيء بريق ثم يفقده بعد حين، أو أنْ تتداخل الطرق فلن يعود هناك طريق، أو يشعر المرء أنّ ما كان يقف عليه قد انهار. وكأنّك تقف وجها لوجه أما أحجية محيرة، ولا تجد حولك إلا الأشياء التافهة، ولا ترى طريقا للعودة إلى نفسكَ، ومن يستطيع أنْ ينجو من الحلقة المفرغة؟ هكذا هو الحال مع الحياة إذ سوف لن تكون الحياة كلها على نحو من السهولة والبسلطة، بل تجعل الحياة تلوح كأنّها لعبة مبتذلة، تصبح الحياة لا تطاق بالغة السأم، إذ تقع تحت سيطرة وهم، وتغرق في مهمه الأمواه، حين تسود الفوضى.
فالفوضى هي حماقة في حماقة، وجهل ما بعده جهل وينبغي أنْ لا تكون إلا كما هي، فهي تهمم التراب على رؤوس الآخرين تهاجم كل من يجترئ على تسفيهها وتعصب عيني المرء حتى لا يرى شيئا. تربك النفس، وتشوه صورة الإنسان الذي خلق على شبه الله، والمجتمع، فهي بادئ ذي بدئ تلطخ صفحات التاريخ البشري لتخدم غاياتها الخبيثة لتدفع بالأمور إلى حافة الهاوية، وترتكب الشرور فتضرب الأرض بقدميها، وينحدر الضعفاء إلى القاع، إذ سوف تتكسر وتنحني كما تنحني أشجار الغابة أمام ضراوة العاصفة
فهي تحمل في طياتها والقتل الخراب والدمار، وتنشر المظالم وكأنّ المرء يعيش في زمن الحرب، وليهبط الموت على الرؤوس. الفوضي هي أنْ لا يخضع كل شيء لاختبار العقل، أنْ ترى كل الأشياء صحيحة، مبررة، حينها تضرب الفكر وتسلبه بل وتشله، بل وتحركه كما تحرك الدمى، وكقطع الشطرنج.
رباه هناك فوضى عارمة، تسود في كل مكان، أينما اتجهتُ ترى الفوضى، في دوائر صنع القرار، هي ترفع نفسها فوق كل شيء، ليس في الأمر خداع أو كذب، وقع الناس في الشرك، ولن يعود البشر إلى الصواب، لأنّ ظلال المساء قد امتدت، ودفن الإنسان رأسه في رمال الأشياء، وصار يحاول أنْ يصور فكرته.
الفوضى هي مثل عنكبوت تفرز خيوطها، وما خيوطها إلا سموم وضلالات ودعاوى باطلة، تفتقر إلى عمق. هي تزعق بأعلى صوتها، تختار الموت أو ما يشبه الموت، تضرب بسنابكها على كل شيء، وتدوس على القيم وعلى الأخلاق، تجعل من الاسباحة والهوى حرية، فالمسألة في نظرها مسألة مظاهر وليس مسألة مبدأ. بحيث لا يمكن التمييز بين ما هو فاسد، بين الغث والسمين، فهي لا تعيش حسب الحق البتة، بل حسب الباطل، ويستخدمها الناس لعمل أمور ملتوية بغيضة دائما تنتهي بالعبودية، هي تتهم الآخرين بالخور والجبن، تسرف في استخدام الكلمات، لكي تحطم المعتقدات، وتصب على رؤوس الناس الويلات والمتاعب، وترى السعادة في الأفكار أكثر مما في الأشياء.
هي تعطي لنفسها الحق كل الحق، لكي تقلب الأمور رأسا على عقب، تجرد الحياة من قيمتها، وتلغي ممارسة قوة الإرادة. تأتي بمفاهيم جديدة، تدعم سلوكها، هي تسوغ قتل الناس، وشن الحروب، وتشجع الارهاب، والسرقة. وتضرب أطنابها على البشر،
فالفوضى هي عهد مع الموت وميثاق مع الهاوية، ولا شأن لها إنْ يموت البشر كالحيوانات، فهي كالطوفان ولا تقل قوة عن السيول الجارفة، التي لا تبقي ولا تذر، تكتسح كل ما يعترض طريقها، ويبدو الوضع برمته على وشك الانفجار. وتقتلع كل شيء.
فهي أشدّ خطرا من أيّ سلاح في أرض المعركة. وتنتزع كل شيء، وتحرق الأخضر واليابس، وتخرج عن طريق السيطرة، فيما إذا كانت هناك سيطرة. إذ تتحول إلى عقيدة شكلية خالية عن الحياة. هي تشل العدالة وتتداعى في كل مكان، وتلغي القوانين، وتقلب الأمور رأسا على عقب.