كلمة الحُبّ، من أقوى الكلمات التي عُرفت في تاريخ البشريّة، والتي لا يخلو أيّ قلب من الاحتياج إليها.
ويسعى كلّ إنسان لإشباع هذا الاحتياج بطريقة أو بأُخرى، فالبعض يسعى إلى رفيقه الإنسان لإشباع حاجته للحُبّ، والبعض الآخر يسعى للمال، وهكذا يسير كلّ إنسان في دربه ليُشبع احتياجه إلى الحُبّ. في هذا المقال أودّ أن أتكلّم عن العلاقة العاطفيّة التي تنشأ بين فتاة وشاب ثمّ تتطوّر لتأخذ شكلها المشروع، ألا وهو الزّواج. عندما يتزوّح الشّاب والفتاة يعتقدان أنّ هذا الزّواج هو نقطة بداية جديدة، للمزيد من مشاعر الحُبّ والرّومانسيّة، لكن بعد وقت تفتُر هذه المشاعر وتخبو النّجوم ويختفي القمر وتُظلم السّماء، ويشعركلاهما بخيبة الأمل ويسألان أين ذهب الحُبّ؟ هل مات أم اختفى؟ أم أخذ صورةً وشكلاً آخر؟
رتّب هرم "د.ماسلو" الحاجات الإنسانيّة ترتيباً تصاعديّاً، فيجب أن يحقّق الإنسان بالتّرتيب
أوّلاً: حاجاته الجسديّة (الأكل والشُّرب والنّوم ...)،
ثانياً: الإحساس بالأمان،
ثالثاً: الحُبّ والانتماء،
رابعاً: الاحترام،
خامساً: تحقيق الذّات.
نلاحظ هنا أنّ الحُبّ جاء في المرتبة الثّالثة. يقول "د.ماسلو" إنّه يجب أن يحقّق الإنسان أوّلاً حاجاته الجسديّة والأمان كي يكون قادراً على الحُبّ والانتماء!، لو تأمّلنا هذه النّظريّة فإنّ سؤالاً هامّاً يطرح نفسه هنا: هل استطاع الشّاب المُقبل على الزّواج أن يحقّق إشباعاً من الطّعام والملبس ومن الإحساس بالأمان بشكل كامل؟ لو تأمّلنا حياة الشّاب المُقبل على الزّواج سنجد خللاً في النّقطة الثّانية تحديداً، فلا يوجد شاب عادي في الوطن العربي يشعر بالأمان بشكل كامل، فالأسعار تزداد باستمرار ومشكلة السّكَن مشكلة حقيقيّة، فيكفي النّظر لسِعر أيّ شقّة ومقارنة أسعار الشّقق بدخل أيّ شاب لمعرفة أنّ الشّعور بالأمان مختلّ، أعني الأمان المادّي والوظيفي واطمئنان الشّاب لقدرته على الإنفاق على أُسرته وتوفير أبسط احتياجاته الخاصّة. كذلك لو تأمّلنا نظريّة الإداري "ستيفن كوفي" في كتابه الشّهير "العادات السّبع للنّاس الأكثر فعاليّة"، سنجد أنّه يطرح تصوّراً منطقيّاً جدّاً، فهل يمكن لشخص لم يُشبع حاجاته الخاصّة أن تكون له القدرة على العطاء؟ فلا يمكن للمرء أن يعطي دون أن يمتلك. هل المركّب الكميائي للحُبّ في جسم الإنسان يختلف قبل وبعد الزّواج؟ علميّاً هذا صحيح. ففي مراحل الحُبّ الأُولى تزداد نسبة مواد منها "الدّوبامين dopamine " والذي يلعب دوراً في الانجذاب العاطفي، أمّا علاقات الحُبّ طويلة الأمد فالدّوبامين ليس كافياً لاستمرارها، فهذه المادّة هي المُسبِّبة للشّعور بالانجذاب لكنّها ليست ضماناً لاستمرار العلاقة. أمّا في الزّواج فالموضوع يختلف، ففي دراسة مثيرة في جامعة كاليفورنيا (سان فرانسيسكو) لوحظ ارتفاع نسبة هرمون "الأوكسيتوسين oxytocin " في دماء الأزواج الذين يتميّزون بعلاقة زوجيّة طيّبة، إنّها مادّة مختلفة تماماً عن الأُولى. ما الذي يعنيه هذا؟ يعني ببساطة أنّ كيمياء الحُبّ (بأشواقه ولَوعته) مختلفة عن كيمياء الزّواج (العلاقات المستمرّة طويلة الأمد). هذا الكلام أهمّ ممّا نتخيّل فنظرة البعض للزّواج خاطئة من الأساس، لأنّ البعض يبني فكرة الزّواج على الانجذاب العاطفي فقط على اعتبار أنّه الحُبّ، وهو ما تصفه وتتحدّث عنه كلّ الأغاني العاطفيّة والدّراما بشكل متكرّر. حين يكبر الشّاب وفي ذهنه هذه الفكرة عن الزّواج سيكتشف أنّ مادّة الدّوبامين ستنتهي سريعاً وتزول نشوة الحُبّ وأنّه لابدّ من وجود الأوكسيتوسين كي يكوِّن الشّخص العلاقات طويلة الأمد. إنّ المشكلة الحقيقيّة تكمُن في فَهمنا لكلمة الحُبّ، فإذا لم يكُن الحُبّ هو اللَّوعة والشَّوق والوَلَه فما هو الحُبّ إذاً؟
لو تأمّلنا أيّة علاقة مثالية سنجد أنّها تمرّ بثلاث مراحل:
المرحلة الأُولى:
الانبهار، إنّها مرحلة الدّوبامين. في هذه المرحلة تكون القصّة في بدايتها، حيث ترى الشّخص الذي تحبّه وكأنّه كامل ولا نَقص فيه ظريف وخفيف الظّلّ، وتكون سعيداً وأنت معه تشعر أنّه مختلف عن كلّ من قابلتهم في حياتك. هذه المرحلة هي التي أنتجت كلّ قصائد الحُبّ والأغاني في التّاريخ الإنساني، وهي المرحلة الوحيدة التي تركِّز عليها وسائل الإعلام والدّراما الرّومانسيّة، إنّها -كما نعلم جميعاً- أروع ما في العلاقات الإنسانيّة.
المرحلة الثّانية:
الاكتشاف. هي المرحلة التي يتعرّف فيها كلّ طرف على الآخر، وبمرور الوقت ستكتشف أنّ هذا الشّخص الذي تحبّه ليس كاملاً كما كنت تظنّ، فهناك عيوب هنا وهناك وأشياء لم تكُن تعرفها أشياء تضايقك فعلاً، هل هذا طبيعي؟ الإجابة: طبيعي جدّاً. وحين تجد أنّ هذا يحدث في علاقتك الجادّة فاعلم أنّك تسير في الطّريق الصّحيح. في هذه المرحلة تختفي الصّورة المزيّفة التي كنت تراها في مرحلة الانبهار وسترى الشّخص على طبيعته وفي هذا الوقت يمكنك أن تقرّر.
المرحلة الثّالثة:
مرحلة التّعايش، وهي مرحلة الأوكسيتوسين!. في هذه المرحلة يصل الطّرفان إلى معرفة كاملة بعيوب بعضهما البعض، يعرفان ما هي العيوب ويتكيّفون معها ويستطيعون التّعايش معها. هذه المرحلة هي أصعب مرحلة في العلاقات، لأنّها تتضمّن إيجاد الوسائل لحلّ الخلافات التي تنشب - حتماً - بينهما وكيفيّة تعامُل كلّ منهما مع عيوب الآخر، هذه المرحلة إنْ تجاوزها الطّرفان بنجاح تعني أقصى درجات الحُبّ التي من الممكن أن تصل إليها العلاقة. هل تعرف لماذا؟ لأنّك لا ترى عيوباً في مرحلة الانبهار، لكن وصولك إلى مرحلة التّعايش، فهذا يعني أنّك عرفت الشّخص وأدركت عيوبه وظللت مُصرّاً على الحياة معه رغم كلّ شيء، هذا هو الحُبّ. العلاقة النّاجحة هي العلاقة التي تحافظ على اتّزانها في جميع هذه المراحل .
بعد أن نصل لمرحلة التّعايش لا بأس من أن نستحثّ مرحلة الانبهار من حين لآخر، نزور ذات الأماكن التي كنّا فيها في بداية تعارفنا، كلمة رقيقة، لمسة حانية، هديّة بسيطة، هذه هي العلاقة المثاليّة. قد يظنّ البعض عندما يصلون لمرحلة التّعايش، أنّ مرحلة الإعجاب انتهت ويشعرون بالحسرة لغياب هذه المشاعر ويقع في هذا الشَّرَك ملايين من النّاس، ويكون هذا سبباً في إفساد علاقة رائعة.
عزيزي القارئ: أشجّعك على أن تعطي لنفسك الوقت والفرصة للتّعرّف أكثر على الشّخص الذي سترتبط به، أعطي لنفسك الفرصة أنْ تتعرّف عليه وترى عيوبه وتحبّه برغم العيوب، فهذا هو الحُبّ الحقيقي الذي ميَّزَنا به الله، أنْ نُحبّ بالرّغم من العيوب والنّقائص. هذه هي أسمى معاني الحُبّ.