ليس ما يمنع الشمس عن أن تشعّ بنورها
بقلم: ايلوا لوكلير
أخذ لاون يقفز من صخر إلى صخر، ولم يلبث أن اجتاز النهر إلى الضفّة الأخرى. وتبعه فرنشيسكو، ولكن بمشقّة. ووقف لاون ينظر إلى غمار الماء الصافي تجري خفيفة سريعة على بساط الرمل الذهبيّ بين كتل الصخور المعشوشبة. ولمّا التحق به فرنشيسكو ظلّ في وقفته من التأمل، فكأنّ عينيه لا تستطيعان عن هذا المنظر تحوّلاً. ونظر فرنشيسكو إليه فرأى ألوانا من الحزن على صفحات وجهه فقال له ببساطة:
- ما بك، يا أخي لاون؟
- ليتنا على شيء من هذه الطهارة، لنعرف نحن أيضاً مرح أخينا الماء واندفاعه.
وعادا إلى السير الصامت. إلا أنّ فرنشيسكو لم يلبث أن قطعه، فسأل لاون:
- وماذا تعرف أنت من طهارة القلب؟
- إنها خلوّ الضمير من كلّ خطيئة.
فقال فرنشيسكو:
- أفهم الآن سبب حزنك، إذ لا سبيل إلى مثل هذا الخلوّ.
- وانّي لذلك في يأس من الوصول يوماً إلى طهارة القلب.
- لا تهتمّ بطهارة قلبك كلّ هذا الاهتمام. حسبك أن تنظر إلى الله فتتأمّل في جماله، وتفرح بأنّه القداسة نفسها، وتحمده لما هو عليه من ذاته. ففي ذلك حقّاً طهارة القلب.
فإذا ما نظرت إلى الله فلا ترتدّ بنظرك إلى نفسك، ولا تتساءل أين أنت من الله. فالحزن الذي نشعر به إذ نبصر أنّنا ناقصون ونكتشف أننا خطأة، إنما هو عاطفة بشريّة. يجب أن نرفع أنظارنا إلى فوق ذلك، إلى حيث الله الذي لا حدّ له، والى حيث بهاؤه الذي لا يخبو نوره. وما القلب الطاهر إلا ذاك الذي يعبد الله الحيّ، ويشغف به شغفا عميقا...فمثل هذا القلب هو معاً فارغ وممتلئ، ويكفيه أنّ الله هو الله، ليجد في ذلك سلامه، وكلّ فرحه، ويكون الله نفسه كلّ قداسته.
إن القداسة ليست استكمالاً للنفس، ولا امتلاء تتعاطاه. إنها بالأحرى فراغ نكتشفه فينا ونرضى أن يملأه الله من عنده بالمقدار الذي به ننفتح له.
فما طهارة القلب سوى النظر إلى مجد الله، ومعرفة الله إلها، ووصفه إلها أبديّاً، وتمييزه عن كلّ كائن سواه، والفرح به موجوداً، والإعجاب به دائم الشباب، وحمده لما هو عليه من ذاته ومن رحمته ووفائه. ذلك أعمق ما تقتضيه المحبّة التي يفيضها روح الله في قلوبنا دون انقطاع.
فسأل لاون :
- وما العمل إذا؟
- أن نتجرّد من كلّ شيء حتّى من ذاتنا، أن نكنس دار النفس من كلّ ما فيها، حتّى من الشعور الأليم بفقرنا، أن نرضى بحالتنا من الفقرالتام، أن نحطّ عن أكتافنا كلّ حمل، حتّى حمل خطايانا، فلا نعود نرى إلا مجد الله يغمرنا بنوره. حسبنا أنّ الله موجود، فيغدو القلب خفيفا، لا يشعر بذاته. لقد ترك القلب كلّ همّ وغمّ، وتخلّى عن كلّ قلق واضطراب، وانقلب فيه الحنين إلى الكمال إلى توق إلى الله وحده.