الاستنارة انفتاح الذهن والبصيرة
[ لا أزال شاكرًا لأجلكم ذاكرًا إياكم في صلواتي كي يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والإعلان في معرفته. مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين ] (أفسس 1 : 16 – 18).
إخوتي الأحباء كما قال الآباء القديسين فأن كل الفضائل نافعة ويحتاج إليها كل الذين يطلبون الله ويريدون التقرب إليه، إلا أننا رأينا كثيرين – على مر الأزمان إلى اليوم – يهلكون أجسادهم بكثرة الصوم والسهر والانفراد في البراري والزهد، والبعض يقضي زمان في البحث والقراءة وبذل الجهد للبشارة وعمل كل ما هو نافع للبناء والتعليم لأجل البنيان، والبعض يرى رؤى وأحلام.. الخ، ومع ذلك رأيناهم حادوا عن الطريق المستقيم وسقطوا وعدموا جميع تلك الفضائل، وسبب ذلك أنهم لم يستعملوا الإفراز والتمييز...
فالإفراز هو الذى يُعلِّم الإنسان كيف يسير في الطريق المستقيم ويحيد عن الطرق الوعرة، والإفراز يحذر الإنسان من أن يُسرق من اليمين بالزهد الجائر المقدار (من صوم وعمل روحي مفرط يفوق قامته وما ناله من الله) ومن الشمال بالتهاون والاسترخاء وعدم التدبير الحسن في حياته الروحية خاضعاً للروح القدس وكل تدبير الله الحسن، أيضاً تسرع البعض في التعليم والوعظ والتبشير بدون أن يحصلوا عن موهبة الروح، أو البعض يتسرع في السير في مناهج روحية خاصة بدون أن يعرفوا دعوة الله لهم، وكل هذا تشخيصه الوحيد هو ضعف الاستنارة أو عدمها من الأساس وأن الإنسان يتحرك في هذه الحالات بمشاعره الشخصية واندفاعاته وشخصيته المراهقة والغير ناضجة روحياً !!!
طبعاً جميعنا يسمع كثيراً عن الاستنارة، وعن شخص مستنير، ونتساءل في كل مرة عن ماهية الاستنارة، وكيف يستنير الانسان، وما هي علامات الاستنارة في الإنسان ونتائجها، والبعض يظن أن الاستنارة هي استنارة فكر بمعنى أنه يعرف معرفة عميقة من خلال انفتاح ذهنه على الآخرين وتقبل المعرفة الواسعة المُفيدة لحياته وحياة الآخرين من خلال البحث وقراءة الكتب، ويتكلم حسب الحق معلناً تعليم يقبله الجميع ويقتنع به الكل، وطبعاً هذه ليست الاستنارة حسب الإنجيل ولكنها استنارة المفكرين والكُتاب والفلاسفة، ولكنها بعيدة تماماً عن قصد الرسول الواضح في رسالة أفسس !!!
فالاسـتنارة Enlightment:هي انفتاح البصيرة الروحية، فهي اصطلاح يعبر عن العين الداخلية القادرة على استقبال الحق الإلهي الذي يكشفه الروح القدس للإنسان. كما تعنى الكلمة أيضا الفرح والمجد وتحول الشخص وتغيره الداخلي بالكامل، ويبدأ يظهر علامة الاستنارة في التغيير الحداث في الحياة العملية، مع معرفة عميقة لمشيئة الله والتمييز بين الظلمة والنور والحق والباطل حسب إرادة الله ومشيئته.؛ ولذلك يقول القديس بولس الرسول: [ مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين ] (أفسس 1: 18)
فالاستنارة هي عملية فتح عين الذهن الداخلي للإنسان، والمقصود بالذهن هنا هو الجهاز الداخلي الحساس الذي يستقبل المعاملات الإلهية، أي قدرة الوعي الداخلي على النظر إلى الأمور التي لا تُرى حسب الجسد والإنسان العادي، بل ما يعلنه الروح القدس حسب التدبير الفائق وفق مشيئة الله، فيفرزها ويُميزها ويكشف مقدار الحكمة فيها ويستوعبها ويفهمها ويقبلها ويعرف عن يقين ما هو رجاء الدعوة التي دُعيَّ بها وما هو غنى مجد ميراث الله في القديسين، وتتحول فيه المعرفة الإلهي المعلنة بالروح القدس لخبرة حياة عملية بسبب طاعته وخضوعه لها فيزداد إيمان حي عامل بالمحبة، ويتبدأ القداسة الفائقة تشع فيه فيدخل في شركة القديسين في النور، فيعيش عملياً حسب قول الرسول: رعية مع القديسين وأهل بيت الله.
ونجد عموماً أن القديس بولس الرسول يطلب من الله أن يهبنا روح الحكمة والإفراز ثم يعطينا قدرة داخليه لاستيعاب وفهم ما يعمله الروح داخلنا، وروح الحكمة هو وحده المنوط بأنه يعرفنا ويُسلمنا الحق، وكل ما يخصنا من جميع أعمال الله العظيمة التي عملها في المسيح يسوع من أجلنا، والتي بطبيعتها تفوق كل إدراكاتنا الطبيعية وكل إمكانياتنا مهما ما بلغنا من حكمة ومعرفة وفهم، لأن الحكمة الإلهية والمعرفة الفوقانية تحتاج إمكانيات خاصة للغاية وتحتاج إنسان جديد مولود من فوق منفتح الذهن ليستوعب الغنى السماوي الفائق، لذلك المعمودية نفسها تُسمى استنارة، لأنها ميلاد جديد يعطي طبيعة جديدة منفتحة على الله بالذهن المستنير والعيون المفتوحة على الأمجاد السماوية...
عيون الذهن ؟
طبعاً العين العادية الخارجية هي عين مخلوقة لتتناسب مع حاجة الإنسان من جهة حياته على الأرض ووظيفتها أنه يرى بها الأمور العادية التي من حوله حسب طبيعة الجسد، ولكنه يستحيل على هذه العين أن ترى ما هو فائق عن الطبيعة، فالعين الخارجية: ترى صورة الأشياء حسب تركيبها المخلوقة عليه، أما العين الداخلية، عين الذهن: ترى حقيقة جوهر الأشياء، لذلك يقول المسيح الرب: [ طوبى لعيونكم لأنها تبصر ] (متى 13: 16)، وعندما كان سائرًا مع تلميذي عمواس، فتح ذهنهم ليفهموا الكتب: [ فانفتحت أعينهم وعرفاه ثم اختفى عنهما ] (لوقا 24: 31)، لذلك من جهة الرؤى بالعين الجسدية يختفي المسيح الرب، ولكن على مستوى العين الداخلية فأنه يُرى نور شديد الإشراق وحق مُعلن...
ونجد قول شهير للأنبا أنطونيوس الكبير في رسالته إلى العلامة ديدموس الضرير قائلاً: [ لا تحزن إن كنت قد ُحرمت من حاسة البصر تلك التي يشترك فيها الحيوان والحشرات مع الانسان، فقد وهبك الله البصيرة الروحية تلك النعمة التي يفتقر إليها الكثير من الناس ]
ومن هنا يجب أن نفرق بدقة بين "البصر والبصيرة"، فالبصر يشترك فيه جميع المخلوقات (من الإنسان حتى الحشرات) على كل شكل ووجه، لكن البصيرة الداخلية الروحية، مختلفة تماماً لأنها بصيرة الإنسان الجديد، أي هي عين الذهن المتجدد دائماً بالنعمة الإلهية الفائقة، عين القلب المفتوحة التي ترى ما لا يُرى بالإيمان الحي العامل بالمحبة...
لذلك يا إخوتي لا تصدقوا تعليم أو كلام يأتي بدون انفتاح الذهن الداخلي بنعمة الله، فلا يُمكن شرح كلمة الله واستيعاب سرها بدون انفتاح البصيرة، ومستحيل تمييز ما هو من الله وما هو من الناس إلا بعين القلب أي عين الذهن الذي فتحه المسيح الرب بنفسه، فأن لم يفتح الرب ذهننا لنفهم الكتب، سنظل لا نُميز ما هو من الله وما هو من الناس، وقد يعجبنا أشياء تبدو إلهية فائقة، ولكن في واقعها وأصلها غش وتدليس وليست من الله، بالرغم من قناعتنا بها وجمال تعبيراتها وحلاوة فلسفتها وشكلها، لأن ليس كل ما يلمع أمام أعيننا هو ذهب أو ذات قيمة، بل لابد من معرفة عميقة مع خبرة فائقة بانفتاح الذهن لكي نُميز ونعرف بعين مفتوحه ترى وتبصر وتقيس كل شيء حسب الحق المعلن بروح الله: [ وأما الروحي (المستنير) فيحكم في كل شيء وهولا يُحكم فيه من أحد ] (1كورنثوس 2 : 15)
هبة المعمودية سرّ الاستنارة:
الاستنارة هي هبة إلهيه ُتمنح لنا خلال هذا سرّ المعمودية المرتبط بعطية الروح القدس، وهكذا فإن الإنسان الروحي الذي استنار بالروح القدس يصبح قادرا على التمييز بين ما هو من الله وما هو من الناس: الإنسان الروحي يحكم في كل شيء ولا يتحكم فيه شيء أو يتسلط عليه آخر غير الله وحده...
وبكون الروح القدس هو الذي يسكن بذاته وبشخصه الإنسان المولود ثانية، لذلك هو وحده فينا مصدر القداسة والنور العقلي الذي يهب الخليقة الجديدة الاستنارة لفهم كل شيء، الاستنارة التي هي إشراقة القلب والدخول بالإنسان إلى النور بعد ظلام طويل مع الخطية والموت، لذلك مكتوب: [ الشعب الجالس في ظلمة أبصر نوراً عظيماً، والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور ] (متى 4: 16).
لقد أعلن المسيح الرب أنه نور العالم (يوحنا 8: 12) ثم وهبنا تلك العطية بأن جعلنا – على المستوى الشخصي بنعمته – نوراً للعالم (متى 5 : 14) ونور العالم الذى فينا ما هو إلا انعكاس لذلك النور الإلهي الذى نحمله داخلنا، الذي يُشرق فينا دائماً وباستمرار بفعل الروح القدس نفسه...
لذلك علينا أن نقترب إلى شخص المسيح ونستنير: [ نظروا إليه واستناروا ووجوههم لم تخجل ] (مزمور 34: 5) لأنه هو [ النور الحقيقي الذي يُنير كل انسان آتياً إلى العالم ] (يوحنا 1: 9)، [ أنا قد جئت نوراً إلى العالم حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة ] (يوحنا 12: 46)، [ لأن عندك ينبوع الحياة، بنورك نرى نوراً ] (مزمور 36: 9)، والمتكل عليه ويسمع منه ويعمل بكل ما يقول لا يخزى قط: [ من سمع لي فلا يخزى ومن عمل بإرشادي فلا يُخطأ ] (سيراخ 24: 30)، [ كل من يؤمن به لا يخزى ] (رومية 10: 11).
وسرّ الاستنارة بالطبع يكمن في قيامة الرب، لأن المعمودية ليست موت فقط مع المسيح ولكنها قيامة أيضاً معه وبالأساس، لأن الموت مع المسيح هو انتهاء الحياة القديمة تماماً بكل ما فيها، والقيامة هي الحياة الجديدة التي لن يغلبها الموت ولن تقدر الظلمة أن تغشاها أو يحتويها قبر: [ إذاً أن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة، الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديداً ] (2كورنثوس 5: 17)، لذلك يقول الرسول: [ استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح ] (أفسس 5: 14)، لذلك دُعيت المعمودية: "استـنــــــــــارة".
ويقول القديس كليمندس السكندري: [ إذ نعتمد نستنير، وإذ نستنير نُتبنى وأذ نُتبنى ُنكمل ] ويقول أيضاً: [ يُدعى هذا الفعل – سر المعمودية – بأسماء كثيرة أعنى نعمة واستنارة وكمالاً وحميماً، فهو استنارة به نرى نور القدوس الخلاصي، أعنى أننا به نشخص إلى الله بوضوح ]
أما القديس غريغوريوس النزينزى فيقول: [ الاستنارة وهى المعمودية، هي معينة الضعفاء، واهبة النور ونقض الظلمة... وهى - أي الاستنارة - مركب يسير تجاه الله برفقة المسيح أساس الدين، تمام العقل، مفتاح الملكوت، استنارة الحياة ]
فالمعمودية استنارة، تبدأ فاعليتها فينا أن وعيناها بالتوبة والإيمان، فإذ نعود لأنفسنا وننتبه فنستيقظ ونطلب نور الله بكل قلبنا وعن حاجة شديدة فيُشرق لنا، وبنوره نرى نور وننفتح على إعلاناته المجيدة، فنصير ابناء النور، فيهرب منا الليل، لأننا صرنا أبناء النهار نسير في النور دائماً ولا نقرب من ليل أو ظلام...
عموماً كل الأمور الروحية يا إخوتي يختبرها الإنسان بالإفراز ويُميزها، ولن يأتينا الإفراز ما لم نتقن أسباب مجيئه وهو الاستنارة الدائمة برؤية وجه النور في توبتنا بصلاتنا وإنجيلنا، فعلينا أن نسعى للاستنارة بالتوسل لله أن ينعم بها علينا ويزيدنا فيها، لأن النور المُشرق من الله لن نناله دفعه واحدة بل سنظل نمتلئ منه إلى آخر نفس في حياتنا، لأننا كلما تقدمنا في الطريق ازدانا استنارة وتوسعت رؤيتنا جدا، فلا تسكتوا ولا تدعوه يسكت، لأن الله يعمل فينا أن أردنا وسعينا إليه دائماً آمين.