. مصيرنا الحياة .
ما هو مصير المسيحيّين في الشّرق؟
السّؤال الّذي يتكرّر ويبعث القلق تارة في نفوس بعض المؤمنين،
ويغذّي روح الهزيمة طوراً في نفوس البعض الآخر.
وليس السّؤال خوفاً على المسيحيين بقدر ما هو مجرّد تحليلات لا تقدّم ولا تؤخّر،
وطرح جدليّات ومناقشات إعلاميّة لا تفيد بشيء ولا تدعو للطّمأنينة،
ولا تؤمّن حدّاً أدنى من الحلول الممكن من خلالها الحفاظ على كرامة الإنسان.
وهم المعتبرون أقليّات في أوطانهم في حين أنّهم المتأصلون فيها من قرون عدّة،
يرزحون اليوم تحت نير التّشرّد والعوز والخوف من مصير مجهول،
ويرذلون ويضّطهدون لمجرّد أنّهم مسيحيّون.
ولئن طغت المصالح السّياسيّة على الأخلاق الإنسانيّة،
ولئن كان المال والسّلطة واتّساع رقعة المصالح والنّفوذ أهمّ من كرامة الإنسان،
اقتضى الأمر بنزع هذه الأقليّة المسيحيّة مع أقليّات أخرى من أوطانهم
حتّى تحقّق هذه السّياسات مآربها وأهدافهما متخطّية كلّ حدود أخلاقيّة وضميريّة.
لا يهمّ كثيراً من الفاعل أو مجموعة الفاعلين،
ولا يهمّ من المستفيد من هذا الإجحاف والظّلم بحقّ مواطنين
أصيلين في مجتمعاتهم،
بل المهمّ والأهمّ أن يتشدّد المسيحيّون وينظرون إلى واقعهم المرير والمذري
بوعي إيمانيّ انطلاقاً من كلمة الحياة المعطاة لهم
بشخص ربنا وإلهنا يسوع المسيح.
1- لسنا أقليّات:
" أنا الكرمة وأنتم الأغصان"،
يقول السّيّد في ( يوحنا 5:15)،
كما يقول القدّيس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس:
" أم لستم تعلمون أنّ أجسادكم هي أعضاء في جسد المسيح؟
( 1 كورنتس 15:6).
ما يعني أنّنا المسيح الواحد الحاضر على الأرض وفي هذا العالم،
وما يعني بالتّالي أنّنا لسنا أقليّات مبعثرة في هذا الشّرق
وإنّما نحن نكوّن معاً جسد المسيح.
وإن كان قد زُرع في عقولنا ونفوسنا أنّنا أقليّات
واستحوذت علينا هذه الفكرة الخاطئة وسلّمنا بها،
وإن تمّ التّعامل معنا على هذا الأساس
إلّا أنّه ينبغي اليوم أن نستيقظ ونعي قيمتنا الإنسانيّة
وكرامتنا الحقيقيّة انطلاقاً من كلام الرّبّ ومن عمله الخلاصيّ،
وليس انطلاقاً ممّا يسوّق لنا الإعلام من أفكار ومبادئ،
أو ممّا ترسّخه البدع في عقولنا والهادفة إلى تضليلن
ا وتشتيتنا وهدم الحضارة المسيحيّة
الّتي تسلّمناها من المسيح ومن آبائنا الأبرار والقدّيسين.
لسنا بأقليّات في هذا الشّرق،
وكرامتنا لا تقلّ عن كرامة أيّ إنسان،
وإن كانت كلمة أقليّة عبارة فرضها الواقع الجغرافيّ أو التّاريخي،
فهذا لا يعني حتماً أنّها واقع ينبغي أن نستسلم له
فيسلب منّا قوّتنا الحقيقيّة الّتي هي المسيح،
ويخطف منّا السّلام الّذي لا يمكن للعالم أن يمنحنا إيّاه،
سلام المسيح.
العالم يجنح إلى سلام مشروط وملتبس المعنى،
ويطمح إلى سلام من خلاله يتسلّط على هذا ويستحكم بذاك ويخضّع له ذلك.
سلام العالم خدعة ما تلبث أن تكشفها أنانيّة الإنسان
وبظهرها شجعه وحقده على أخيه الإنسان.
لسنا أقليّات ومجموعات متروكة،
والحقيقة الوحيدة الّتي ينبغي أن تحرّك نفوسنا وتعزّز القوّة فينا هي كلمة السيّد:
" أبواب الجحيم لن تقوى عليكم"،
وأبواب كثيرة من الجحيم لم تقوَ على المسيحيّة وفكرها طيلة قرون،
وباب اليوم أيضاً لن يقوى علينا وذلك لأنّنا قياميّون ولا يهزمنا تراب الموت
ولا نتلاشى لأنّه وُجد من قرّر إلغاءنا.
انظروا المسيح المتجلّي بأبهى جلاله على الصّليب،
لقد ظنّ الجميع أنّه انتهى على خشبة الصّليب
وأنّ الموت هزمه وأراح مجموعة مريضين بنفوسهم.
انظروا فعل المسيح القائم من الموت في حياتكم
واسمعوا كلمته الحيّة أبداً تردّد:
" لا تخافوا، أنا معكم حتّى انقضاء الدّهر".
2- فلننزع من داخلنا روح الهزيمة:
" لا أريدكم أن ترضوا النّاس، بل أن ترضوا الله،
مثلما تفعلون حقاً، لأنّني لن أنعم مرة أخرى بمثل هذه الفرصة لأصل إلى الله،
ولا أنتم بقادرين على إنجاز عمل أعظم ما لم تسكتوا وتتركوني،
لأنّكم إن بقيتم صامتين وتركتموني وشأني أصير كلمة الله،
لكن إن أحببتم جسدي فإنني أصير مجرّد صوت.
لا تقدّموا لي سوى أن أنسكب صعيدة لله والمذبح لا يزال قائماً،
حتى في محبّة تصيرون جوقة ترنّمون للآب في يسوع المسيح.
لأن الله قضى أن يُحسب الأسقف من سوريا مستحقاً أن يكون في الغرب
وقد جمعه من الشرق.
جيد أن أغرب عن العالم حتي أشرق عند الله …
ـ فقط تضرّعوا أن تتوفر لي قوة خارجياً وداخلياً حتى لا أتكلّم فقط
بل أن أرغب أن أعمل ما أقوله حتى لا أدعى فقط مسيحياً بل أبرهن فعلاً أني كذلك،
لأنني إن أثبت أنني مسيحي، يمكن لي أن أدعَى أيضاً مسيحياً،
وحينئذ أصير أميناً حين لا أصبح بعد منظوراً في العالم…
إنّ عملي ليس مجرد بلاغة مقنعة،
فالمسيحية بالأحرى هي الأعظم حين تكون مكروهة من العالم.ـ"
في هذه الكلمات المقتبسة من رسالة القدّيس أغناطيوس الأنطاكي
إلى أهل روما قبل تنفيذ حكم إلقائه للوحوش،
قوّة تفوق كلّ قوّة وشجاعة تدرك أنّ طريق أورشليم لا يكون إلّا صعوداً.
كان أهل روما يسعون للتّدخّل مع الحاكم ليمنعوا تنفيذ الحكم،
إلّا أنّ القدّيس أغناطيوس أبى إلّا أن يذهب حتّى النّهاية طالباً منهم
ألّا يمنعوه عن الحياة.
" الحياة هي المسيح، والموت ربح لي"،
يقول القدّيس بولس، ومن عرف المسيح تيقّن أنّه الحياة
ولا معنى لأيّة حياة بعيداً عنه.
بالمقابل من عرف المسيح ثبُت له أنّ كلّ أمر مهما كان خطيراً أو مجحفاً أو قاسياً
يؤول إلى ما يريده الله من خير للإنسان.
نحن لا نعلم ماذا يهيئ الرّبّ لنا، ولا نفهم غالباً طرقه،
ولكنّنا نثق أنّه أمين، وأنّه وهو الحيّ، حاضر أبداً بيننا،
ممسكاً بنا كي لا نسقط.
المسيحيّ لا يعرف الهزيمة،
وذلك لأنّ السّيّد دحر آخر عدوّ للإنسان، ألا وهو الموت.
ومهما كان من نبذ أو تشرّد أو اضّطهاد أو ذلّ أو قتل فلا نخافنّ ممّن يقتلون الجسد
ويظنّون أنّهم منتصرون، لأنّهم لا يستطيعون أن يفعلوا أكثر من ذلك.
هذا لا يبرّر فظاعة ما يحصل لإخوتنا ولا يمنح الحقّ لأحد أن ينتهك كرامتنا،
إلّا أنّه علينا أن نتشجّع ونتقوّى ونستمرّ حتّى النّهاية.
ولنساعد بعضنا البعض متضامنين بمحبّة المسيح، عندها
سنشكّل قوّة لا يمكن الاستهانة بها.
ليست القوّة بالسّلاح،
وإنّما القوّة تكمن في حضور المسيح بيننا وبالسّماح له بأن ينفذ إلى أعماقنا.
والعالم اخترع السّلاح لأنّه يدرك محدوديّة قوّته، أمّا نحن،
من لسنا من هذا العالم، فقوّتنا هي المسيح وفقط المسيح.
هكذا حارب آباؤنا من اضّطهدوهم، بالاتّحاد بيسوع المسيح،
فلم يأبَ استفانوس للرّجم ولم يهتمّ بولس لقطع رأسه
ولم يتوانَ بطرس عن الوصول إلى الصّليب.
وكلّ آبائنا الّذين استشهدوا ببطولة
ولم يبخلوا بدمائهم وأرواحهم من أجل حبّ السّيّد،
بنوا لنا حصوناً من الشّجاعة والبسالة
ولكن بمنطق الحبّ وليس بمنطق هذا العالم.
" افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضاً، افرحوا. وليظهر حلمكم لجميع النّاس، فإنّ الرّبّ قريب.
لا تهتموا بشيء، بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر،
لتعلم طلباتكم لدى الله.
( فيليبي 6،5،4،:4).
فلنتشجّع ولنقم ولنحمل فراشنا ونمضي خلف المسيح
حيث الحياة لا تنتهي والحقيقة لا تلتبس. أقوياء نحن بمن يقوّينا،
وبه نستطيع كلّ شيء، وعبارة ( كلّ شيء) تعني كلّ شيء.
3- مصيرنا الحياة:
" ما عدت أريد الحياة بحسب معايير البشر، سيكون هذا هو حالي،
لو رغبتم في ذلك فارغبوا حت يرغب الله فيكم !
بهذه العبارات القصيرة أطلب منكم هذا فصدقوني ! …
صلوا لأجلي لأبلغ الهدف، اكتب اليكم لا حسب منظور بشري،
بل بحسب فكر الله.
فان كنت أتألم فلأنكم أردتم ذلك، وإن تمّ رفضي تكونون كمن يكرهني...
وداعاً حتى نلتقي أخيراً، في طول أناتنا، بيسوع المسيح!"
هكذا ينهي القديس أغناطيوس الأنطاكي رسالته إلى أهل روما،
مدركاً أنّ مصيره الحياة وهو يسلم نفسه طوعاً للموت كما السّيّد غير آبه بأية مخاطر.
فالمسيحي حين تأتي ساعة انتقاله إلى حضن الرّبّ يلقى الموت بفرح عظيم
لأنّه كما استفانوس، ينظر إلى السّماء، إلى فوق، حيث المسيح قائم عن يمين الآب،
ولا ينظر إلى أسفل لأنّ مصيره فوق.
هذا المصير ليس وعداً بجنّة أو تعويضاً عمّا لم ينله في هذه الحياة
وإنّما هو لقاء بمن أحبّنا أوّلاً، وبذل نفسه من أجلنا كي لا يستعبدنا أحد أو شيء.
لا نسألنّ أينك يا ربّ ولماذا تخلّيت عنّا، بل لننظر وجهه القدّوس مشرقاً في حياتنا.
ولا نخافنّ على مصيرنا فمصيرنا هو المسيح الحيّ، الحياة الّتي لا تنتهي ولا تزول.
ولا نتحسّرنَ على حجارة تُهدم فنحن حجارة الكنيسة المبنية على صخرة الإيمان
والتي أبواب الجحيم لن تقوى عليها.
فلنتشجّع ولنتقوَّ ولنتعاون حتّى نستحقّ المسيح،
ولنشجّع بعضنا البعض على المحبّة فنأتي بثمر كثير.
" بهذا يتمجّد أبي: أن تأتوا بثمر كثير فتكونون تلاميذي"
( يوحنا 8:15).
" ها أنا اليوم قد جعلتك مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض،
فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك، يقول الرب، لأنقذك"
( أرميا 19،18:1). |