عيدُ رفعِ الصّليبِ الكريمِ المحيي.
"عيدُ الإلهِ المصلوبِ لنا بالحبِّ".
اليومَ حضرَتْ دينونةُ هذا العالمِ!!...
اليومَ تنزلُ يدُ الخالقِ اللهِ الآبِ لتجبلَ ترابَ الأرضِ صليبًا تقدّمُهُ هديّةً
لخالقِها الإلهِ الابنِ المساوي للآبِ في الجوهرِ والبداءةِ!!.
اليومَ يصرخُ يسوعُ ابنُ اللهِ الآبَ، حبيبَه، المساويَ له في الجلسةِ: أنت أبي الأعظمُ مني، الّذي مسحَني لأتجسّدَ مصلوبًا من بطنِ المرأةِ مريمَ العذراءِ وحدَها، فيحملَني حُبًّا مبذولاً، لا هيئةَ ألوهيّةً له ولا منظرَ ليشتهيَهِ العابرون به، ويُعلَّقَ مضروبًا، مبصوقًا عليه، محتقرًا، مطعونًا، مجرَّحًا،
نازفًا كلومَهُ ليستقيَها كلُّ من يجدُهُ وهو عطشانٌ خارجَ مدينةِ أورشليمَ، الّتي افتقدَها مسيحُها، فوجدَها باعَتْ كيانَها كلَّهُ لقُطَّاعِ الطّرقِ، للأغنياءِ والرّؤساءِ وولاةِ هذا العالمِ، الكَذَبَةِ كلِّهم، الّذين أسلموا ربَّهم وإلهَهم للموتِ حسدًا!!!...
اليومَ انتفضَ وَجعًا الحبُّ الإلهيُّ، واستشاطَتْ ثورةُ الإلهِ الابنِ "لاعنًا" كلَّ الّذين احتكموا لسقوطِهم حتّى يطعنوا فيقتلوا هيئة الخالقِ، طلَّةَ نورِهِ، جبروتَ حضرتِهِ ووجودِهِ في أحشائِهم!!.
وإذ يرونَهُ معلَّقًا على الصّليبِ، لا هيئةَ لهُ ولا منظرَ فيُشتهى، رذلوه بعينِ السّقوطِ!!... أهانوه بعدمِ حبِّهم له!!... هزَّؤوه!!... فاستصرخَتِ السّمواتُ حقيقةَ الوجودِ الإلهيِّ، هادرةً: "اسمعوا"!!!...
فاستدارَتْ عيونُ خليقةِ الكونِ الإلهيّةُ والنّاطقةُ السّرَّ كلُّها... هذا هو إلهُنا، "الّذي أخلى ذاتَهُ آخذًا صورةَ عبدٍ، صائرًا في شبهِ البشرِ"!!!.
وحلَّ الغضبُ... غضِبَ العشّارون ورؤساءُ الشّريعةِ وأحبارُها المسمّون مسيحيّين، والأغنياءُ حكّامُ هذه الأرضِ والولاةُ، مسائلين الرّبَّ بتجرُّؤٍ: كيف لنا، نحن الّذين في أيدينا حكمُ حياةِ البشرِ، أن نعبُدَ إلهًا ضعيفًا؟!. كيف يطيعُنا النّاسُ الّذين نسيِّرُ مقاديرَ حياتِهم، إذا لم يعاينوا صراحةً، بوجهٍ منفتحٍ مترقّبٍ، قوّةَ وسؤددَ الإلهِ ربِّ الأكوانِ؟! وكيف يُصغونَ إلينا، فيطيعوننا؟!...
العالمُ لا يطيعُ إلاّ القويَّ!!... هكذا نطقَ الكونُ السّاقطُ!!...
لأنَّ الطّاعةَ وليدةُ وثمرةُ الخوفِ من الّذي هو أقوى منّا، الإنسانُ... الإلهُ، الحاملُ ركائزَ الأرضِ حتّى لا تتزعزعَ!!. القديرُ في القتالِ، في الغلبةِ على الأعداءِ وفي بعثرةِ وتشتيتِ مقاومتهم ومحوِهم عن وجهِ الأرضِ... ليبقى، هو والّذين سيّدوا أنفسَهم عصبةَ قتلةٍ، مُعْتلينَ بِبَطْشِهم كراسيَّ السّلطةِ، جامعين خزائنَ أموالِ البحارِ ومناجمِ الذّهبِ والماسِ المختلطِ بترابِ ورمالِ الأنهرِ وبأعراقِ ودمِ الفقراءِ، ليغتنوا وحدهم، تاركين المرضى وجوعى الأرضِ وخدّامَ منازلِ ومقاهي ودولِ نفطِ العالمِ؛ ليبنوا لأنفسِهم، وهم الأغنياءُ، الرّفعةَ، مسخِّرين العلمَ والاختراعاتِ ويزوّرون كتابةَ تاريخِ الكونِ كما يرتأون هم، لا كما كتبَهُ اللهُ بإصبعِ مجدِهِ الأبويِّ الإلهيِّ...
وصارَتِ الأرضُ خربةً بعدَ أن رفعَ اللهُ الخالقُ إصبعَهُ عن وجهِ البسيطةِ!!.
ماتَ الإنسانُ وكلُّ ذريّتِهِ، وحلَّ صمتُ الموتِ والفناء!!.
اليومَ انكفأَ الإلهُ إلى حزنِ الفردوسِ الّذي رفضَهُ الإنسانُ، حتّى لا يصيرَ بكرَ خليقةِ الإلهِ الّذي كان سيملّكُهُ سرَّهُ، وهو "أنَّ شجرةَ معرفةِ الخيرِ والشّرِّ بدءًا هي الصّليبُ الّذي لا يذوقُهُ ثمارًا وحبًّا وطاعةً وتوبةً إلاّ الّذين ماتوا بالحبِّ عن ذواتِهم... عن أناهُم... عن كيانِهم، ليصيرَ المسيحُ، الإلهُ الابنُ، بكرُ الخليقةِ، إنسانًا، مماهيًا نفسَهُ معه وفيه؛ ليصبحَ، إذا قَبِلَ أن يعلَّقَ على خشبةِ الصّليبِ، المسيحَ الممسوحَ من اللهِ الآبِ"!!.
وصارَ الصّليبُ، وهو شجرةُ معرفةِ الخيرِ والشّرِّ الّتي في الفردوسِ،
حياةَ الّذين عرفوا سرّيًّا أنّهم منذورون للآبِ والابنِ بالرّوحِ القدس!!.
هكذا بدأَ تفجُّرُ سرِّ المعرفةِ في الكونِ!!.
هكذا وقفَ الكونُ منشقًّا إلى شطرين!!. إلى إنسانَين، إلى كيانَين!!...
إلى شيطانٍ في هيئةِ إنسانٍ وإلى إنسانٍ من الإلهِ الإنسانِ!!...
ونُصِبَ الصّليبُ في الجلجةِ!!. واحتكمَ التّخلّي البشريُّ عن ألوهيّةِ الإنسانِ في الإنسانِ!!.
فاحتجبَ الشّيطانُ في هيئةِ الإنسانِ!!. أنزلَ الرّبُّ الإلهُ السّيفَ مقطِّعًا وعدَ الصّلاحِ
وحلَّ الحزنُ محلَّ الفرحِ... والخوفُ مطرحَ الرّجاءِ... تحوّلَ عودُ الحياةِ مقبرةً للحبِّ، للوداعةِ،
للبذلِ والتوبةِ عن الأنا!!.
واستشاطَ سخطُ الشّعبِ... ثارَ الإنسانُ على الإلهِ ليحطِّمَ أحكامَهُ!!.
كيف، وأنتَ الإلهُ الخالقُ، ربُّ السّمواتِ والأرضِ، القويُّ، "الشّدّايُّ"،
تُماهي نفسَكَ بالضّعفِ وتصرخُ قبلَ خروجِ روحِكَ إلى أبيكَ السّماويِّ:
"اغفرْ لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون"؟!...
لِمْ وكيفَ اخترْتَ الضّعفَ؟! والمسكنةَ على المُلكِ والقوةِ وسلطةِ الحكمِ؟!...
ونحنُ ماذا سيكونُ لنا؟!. أتحطِّمُنا بفقرِكَ ومسكنتِكَ وفدائِكَ، فلا تعودُ لنا سلطةٌ
أو حكمُ حياةٍ أو قوّةُ اقتدارٍ أو عظمةٍ؟!.
وكان الصّمتُ لغةَ المسيحِ الإنسانِ على الصّليبِ وأمامَ تهديدِ سلطةِ هيرودسَ!!...
هكذا اعتلى الحبُّ بالكرامةِ المسحوقةِ، اعتلى فوقَ بصاقِ أهلِ بيتِ الملكِ على مَلِكِهم،
ربِّهم وإلهِهِم!!...
وصارَ أيضًا صمتٌ!!. ها سرُّ الحياةِ انتُهِكَ!!... سرُّ المعرفةِ، سرُّ انبجاسِ النُورِ...
سرُّ الّذين تفتّحَتْ بصائرُ أرواحِهم على يدِ الإلهِ، لتمسحَ عن عيونِهم هيئةَ جحافلِ الشّرِّ الّذي
لا يقتدرُ على بصائرِهم في النّهارِ، فيهجمُ إلى دواخلِ قلوبِهم محمِّلاً إيّاهم الخوفَ والجزعَ
والتسآلَ في ليلِهم إن غَفَوا:
لماذا؟!. لماذا تركتَنا، كأنَّ لا إلهَ لنا؟!. لا سنَدَ لنا؟!...
أين رفقةَ حنانِ حبِّكَ الإلهيِّ، ليسيرَ بنا إلى النّهاياتِ حيثُ نُخطَفُ في السُّحُبِ تابعين وجهَكَ الإلهيَّ،
حاملين صليبَكَ "تعويذةً"، تُبعدُ عنّا غوائلَ العدوِّ؟!...
وسالَتِ الحرُقاتُ والدّموعُ والأتعابُ والأعراقُ والانتظارُ...
ليصيرَ الإنسانُ سعيًا مصلوبًا على صليبِهِ هو... على تشنّجاتِ وَجْدِهِ...
على قلبِهِ المنفطرِ على كلِّ الّذين لم يدركوا أنْ لا نموَّ في الحبِّ
ولا رفعةَ في الوصولِ إلاّ من نُقَطِ الدّمِ النّازفِ من جنبِ الإلهِ المصلوبِ،
ومن جنبِ كلِّ إنسانٍ انشدَّ بالمعرفةِ، بالحقِّ، بالكلمةِ البكرِ النّاطقةِ اسمَ وختمَ ورسمَ يسوعَ المصلوبِ...
في الإعلانِ الواحدِ:
"أحبُّكَ، يا ربّي... يا قوّتي المصلوبةَ على كذبِ هذا العالمِ،
على انتظاري لكَ في كلِّ خفقةِ روحٍ وحسٍّ وكلمةٍ تنبعُ من جوفِ الحوتِ البحريِّ...
من الوعدِ أنّي إذا خرجْتُ من بطنِ حوتِ الموتِ اليوميِّ، فإنّي أقومُ إليكَ!!.
إلى فردوسِكَ الواحةِ في قحطِ هذا العالمِ، كما في السّمواتِ وأقدِّسُ اسمَكَ بكَ...
ربّي، أنا ابنُكَ المجرّحُ بالخطيئةِ؛ وإنّي، يا حبّي، يا ربّي، يا إلهي، يا سيّدي،
يا ختني، وعَيْتُكَ اليومَ معلِّقَني على صليبِ حبِّكَ لي، وموتِكَ عنّي بي، حبًّا منكَ!!.
على صليبِكَ الّذي هو أنتَ، عُكّازي؛
لكي أستقيَ نعمتي منهُ وسجدتي تحتَ قدَمَيْكَ المسمّرتَينِ على الخشبةِ،
فأفرحَ وأتهلّلَ بالألمِ، لأنَّكَ أنت معي، ومع كلِّ الّذين عرفوكَ إلهًا متألّهًا على الصّليبِ!!. إنسانًا مثلَنا، لكي تجعلَنا آلهةً مصلوبةً فيكَ ومنكَ على صليبِكَ... تحت يدِ الآبِ الخالقِ، ربِّ السّمواتِ والأرضِ.
تجعلُنا أنتَ بالحبِّ، بحبِّكَ، معرفةً من شجرةِ المعرفةِ الفردوسيّةِ، من صليبِكَ!!.
هكذا نبقى معكَ، إيّاكَ، وحتّى مجيئِكَ الثّاني؛ لترفعَنا ودموعَنا إليكَ!!...
مغمَّسين بفرحِ لقياكَ، يا إلهَنا، جامعَنا كلَّنا: كونَكَ، أولادَكَ، إليكَ...
متمتمينَ... وصارخينَ ترتيلةَ الظفرِ بلقياكَ!!...
بالصّليبِ ذُرَّتْ كلُّ أجنادِ الشّرِّ المعشِّشَةِ في الهواءِ!!.
بالصّليبِ انسحقَتْ كلُّ قوى شياطينِ الموتِ الّتي في الجحيمِ وحولَ الإنسانِ!!...
بالصّليبِ تحوَّلَ نوحُ الأمّهاتِ الثّكالى إلى فرحٍ بلقيا الإلهِ الإنسانِ قائمًا على الخشبةِ!!...
بالصّليبِ تبدّدَ خوفُ، جوعُ وعطشُ الّذين لا عونَ ولا رجاءَ لهم!!...
بالصّليبِ هدأتْ يدُ الرّجلِ على قلبِ المرأةِ حتّى لا يتزعزعَ!!...
بالصّليبِ صرخَ الطّفلُ من حضنِ أمِّهِ: يا إلهي... يا يسوع، أنتَ مِذوَدي الّذي أُولَدُ فيه!!...
بالصّليبِ انجمعَ كلُّ كونِ الإلهِ إلى وجهِ مسيحِهِ وإلهِهِ!!...
بالصّليبِ تفتّتَتْ وانسحقَتِ العداوةُ تحتَ ختمِهِ فأبادَ الشّيطانَ!!...
بالصّليبِ استعادَ الكونُ وحدةَ شخصِهِ أمام خالقِهِ!!...
بالصّليبِ زالَ الحزنُ وحلَّ الرّجاءُ!!...
بالصّليبِ، تحت ختمِهِ ورسمِهِ، أُبيدَ الموتُ!!...
بالصّليبِ استعادَ الإنسانُ حبَّهُ فصارَ واحدًا والإلهَ!!...
"بالصّليبِ أتى الفرحُ لكلِّ العالمِ"... لكلِّ العالمِ... آمين...
الأمّ مريم (زكّا)
رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان