العماد يدعونا إلى السماء
للقديس يوحنا الذهبي الفم رئيس أساقفة القسطنطينية
لنتأمل يا إخوة الأعجوبة الكبرى التي جرت حالاً بعد عماد المخلَّص، والتي كانت مقُدمة لما كان سيحدُثُ فيما بعد. لأنَّ ما إنفتح إذ ذاك ليس الفردوس بل السماء فقط، "وعندما إعتمد يسوع إنفتحت السماوات". لما إنفتحت السماء عندما إعتمد يسوع المسيح؟ لكي يُفهمكم أن الأمر عينَه يحدُثُ بنوع غير منظور عند عمادكم، حيث يدعوكم الله إلى وطنكم السماوي ويًحَرّضكم على الاّ تتمسَّكوا كثيراً بالأرض. وإن تكن هذه الأعجوبة لا تحدث معكم بنوع منظور فلا تدعوا مع ذلك مجالاً للشك فيها.
لقد تعوَّد الله في تأسيس أسراره، أن يُظهر بعض أدلةً وخوارق خارجية، للنفوس الغشيمة التي لا تستطيع أن تفهم شيئاً من الروحانيات ولا تتأثر إلا بما يلامس الحواس، حتى إذا عُرضت علينا هذه الأخبار، بدون أن ترافقها هذا العجائب نتقبلها حالاً بطواعية الإيمان الراسخ. وهكذا عندما حلَّ الروح القدس على الرسل، سُمِعت ضجَّة عاصفة عنيفة. وظهرت ألسنةٌ من نار. ولم تحدث هذه الأعجوبة لأجل الرسل بل لليهود الحاضرين هنالك فإن كنا لا نرى الآن الأدلة عينها ومع ذلك ننال ذات النعم التي كانت تمثلها هذا الأدلة.
لماذا إعتمد السيد المسيح؟
للقديس يوحنا الذهبي الفم رئيس أساقفة القسطنطينية
"حينئذٍ أتى يسوع من الجليل إلى الأردن، إلى يوحنا، ليعتمد منه، فكان يوحنا يمانعه قائلاً: أنا المحتاج أنا أعتمدّ منك وأنت تأتي إليّ" (متى 13:3-14).
لقد جاء الرب يا إخوتي، يعتمد مع العبيد والقاضي مع المجرمين. غير أنَّ إتَّضاع الله هذا لا يجوز أن يُشغل بالكم، لأنه تعالى في تنازله العظيم يُظهرُ مجده العظيم. أتتعجبون من أن الذي شاء أن يمكث إشهراً في أحشاء العذراء، وأن يخرج منها لابساً طبيعتنا، والذي شاء فيما بعد أن يحتمل اللَّطم وعذاب الصليب وغيره مما تحمل حباً لنا، أن يشاء أيضاً تقبّل العماد، والإتضاع أمام عبده مختلطاً مع جمهور الخطأة؟ أما ما يجب أن يذهلنا فهو أن يكون الله قد تنازل وصار إنساناً، لأنه بعد هذا التنازل الأول لم يعد الباقي سوى نتيجة طبيعية. وهكذا لكي يبيّن لنا يوحنا المعمدان مقدار أتضاع إبن الله، كما سبق وقال: أنه لا يستحق أن يحل سير حذائه، وأنه الديّان العادل الذي يُحاسب كلاً بحسب أعماله، وأن يفيض نِعَم الروح القدس على كل الناس، حتى إذا رأيتموه أتياً على العماد لا ترون مهانة في هذا الإتضاع. وهذا عندما شاهده يوحنا المعمدان أمامه، أخذ يمانعه قائلاً: "أنا المحتاج إلى أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ". وبما أن عماد السيد المسيح كان عماد التوبة، وكان يقضي على المعتمدين أن يعترفوا بخطاياهم، فلكي يستدرك يوحنا المعمدان ويبيّن لليهود أن السيد المسيد لم يأتِ إلى عماده على هذه النية دعاه أمام الشعب: "حمل الله" والمخلص الذي يمحو كل خطايا الجنس البشري، يقتضي بأول حجة أن يكون هو نفسه بريئاً من الخطأ. وبما أننا قد حُسبنا جديرين بتلك الأسرار العظيمة، فلنعش حياه أهلاً لها، حياة الكمال في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد والعزّة مع الآب والروح الآن وكل أوآن وإلى دهر الداهرين. آمين.
الروح القدس
للقديس سمعان اللاهوتي الحديث
ترجمة الأرشمندريت أفرام كرياكوس
تعلّموا جيّداً، أيها الإخوة، طابعَ خَتم المسيح الحقيقي. أيها المؤمنون، أنتم تعرفون خصائصه. إنّ ختمه الفريد هو بالحقيقة إشراق الروح القدس، مع العلم أنه يتّخذ أشكالاً متعددة في فعله، ومعالم متعددة في فضائله. أوّلاً ومن حيث الضرورة يأتي التواضع، لأنه أساس الفضائل الأخرى كلّها وجوهرها: "إلى مَن أنظر، يقول الرب، إلاّ إلى الوديع، إلى المتواضع والذي يرتعد لكلماتي؟" (أشعيا 2:66). ثانياً يأتي النوح منبعُ الدموع التي أود أن أقول عنها أشياء كثيرة، لكنّي لا أجد التعابير المناسبة لذلك. إنها عجب لا يُستطاع التكلم عنه. أي كيف أن الدموع التي تسيل من العينين الحسيّتين تطهّر النفس عقليّاً من وسخ خطاياها؟ كيف أن تلك التي تسقط على الأرض تحرق الشياطين وتسحقها وتحرّر النفس من رباطات الخطيئة غير المنظورة؟ آه! أيتها الدموع المتدفقة بواسطة الاستنارة الإلهيّة، التي تفتح السماء هذه وتعطيني تعزية إلهيّة! إنني أعود وأكرر الكلمات نفسها بدافع شوقي وإمتناني: حيث يوجد، أيها الإخوة، دموع غزيرة بمعرفة حقيقية هناك أيضاً إشراق للنور الإلهي. وحيث إشراق النور هناك هبة الصالحات كلها، هناك يُختَم بخاتم الروح القدس داخل القلب، التي منه تأتي أثمار الحياة كلّها. من هنا يُزهر من أجل المسيح السلامُ، الرحمة، الرأفة، الصلاح، البرّ، الإيمان والعفّة. وبالتالي محبة الأعداء والصلاة من أجلهم، الفرح في التجارب والافتخار في الشدائد. وأيضاً أن يحسب المرء خطايا الآخرين خطاياه، أن يبكي من أجلها وأن يضحّي بحماس بنفسه من أجل الإخوة.
لننظر إذاً، أيّها الإخوة، إلى أنفسنا ولنفحصها بدقة ونتعرّف إلى حالتها. هل يوجد فينا هذا الخاتم؟ فلنميّز من خلال العلامات المذكورة سابقاً إن كان المسيح فينا. أيّها الإخوة المسيحيّون أرجوكم إصغوا، تيقّظوا وابحثوا: هل أشرق النور الإلهي في قلوبكم؟ هل تمتعّتم بنور المعرفة العظيم؟ هل إفتقدنا من السماء الشمس المنيرة للذين في الظلام وظلال الموت؟ إن حصل ذلك فلنمجد السيّد الصالح باستمرار ولنشكرْه على الهبة التي منحنا إياها. ولنجاهد بواسطة عمل الوصايا (أي تطبيقها) من أجل أن نوقد في داخلنا الشعلة الإلهية. لكن إن لم نحصل بعد على المسيح أو على خاتمه، إن لم نميّز في أنفسنا العلامات المذكورة أعلاه، بل على العكس نرى العالم الباطل يحيا فينا، ونحن الأشقياء نحيا فيه ظانين أن الأمور العابرة لهي شيءٌ عظيمٌ جداً، وإن كنّا بعد نستسلم للشدائد، نحزن للمصائب، ونفرح للرفاهية والغنى، عند ذلك يا للتعاسة! يا للجهالة والعمى! يا للشقاء وعدم الاحساس! هذه السائدة علينا، التي تشدنا إلى الأرضيات وتعلقنا بها. بالحقيقة يُشفَق علينا وعلى شقائنا الكامل لأننا نكون غرباء عن الحياة الأبدية والملكوت السماوي نحن الذين ليس فقط لم نحصل بعد في داخلنا على المسيح، بل وجعلنا العالم الباطل فينا ونحن فيه ونهتم بالأمور الأرضية. من الواضح أن هذا الإنسان هو عدو لله، لأن التصاقه بالعالم الباطل عداءٌ لله، "أيها الزناة والزواني أما تعلمون أن محبة العالم عداوة الله"(يعقوب 4:4). وكما يقول الرسول: "لا تحبّوا العالم والأشياء التي في العالم إن أحب أحدٌ العالم فليست فيه محبة الآب"(رسالة يوحنا الرسول الأولى 15:2) لأنه لا يستطيع أحد أن يخدم الله، وفي الوقت نفسه، أن يعيش بحسب العالم كون أمور العالم تعيق محبتنا لله وإرضائه.
من أقول القديس يوحنا الذهبي الفم عن عيد الظهور الإلهي:
1- الروح بهيئة حمامة
لماذا ظهر الروح القدس بشكل حمامة؟ الحمامة حيوان أليفٌ طاهر. وبما أن الروح القدس هو روح وداعةٍ، لذلك تراءى بشكل حمامة. ومن ناحية أخرى، هذا يذكرنا بقصةٍ تاريخيةً قديمة، عندما غمر الطوفان كل المسكونة، وكاد الجنس البشري أن يفنى، كانت الحمامة الطائر الذي بيَّن بوضوح نهاية الغضب الإلهي، حاملة في منقارها غصن زيتون، كخبرٍ مفرح يعلن السلام العام. كل ذلك كان رسماً لما سيحدث لاحقاً. كانت حالة الناس أبشع بكثير من حالتهم الحاضرة، وكانوا يستحقون عقاباً أكبر. فلكي لا تيأس أنت الآن، يذكِّرك هنا بتلك الحادثة القديمة: حين كان الرجاء مفقوداً، وُجد حلٌّ وإصلاحٌ. كان الطوفان في ذلك الوقت تأديباً، وأما الآن فقد جاء الحل عن طريق النعمة والعطية الجزيلة. لذلك ظهرت الحمامة، لا تحمل غصن زيتون، ولكنها تشير إلى الذي سيخلص من كلِّ الشدائد، وتبسط أمامنا رجواتٍ صالحة؛ لأنها لا تُخرج إنساناً من الفلك، بل تقود بظهوره المسكونة كلها إلى السماء. لا تحمل غصن زيتون بل البنوَّة للبشر كلهم.
الآن، وقد أدركت قيمة العطية، لا تحسب أن قيمة الروح ناقصةٌ، بسبب ظهوره بشكل حمامة. أسمع البعض يقول إنه كما يختلف الإنسان عن الحمامة كذلك يختلف المسيح عن الروح؛ إذ ظهر المسيح بصورة طبيعتنا الإنسانية، بينما ظهر الروح القدس بصورة حمامة. فبم نجيب عن كل ذلك؟ إن ابن الله اتَّخذ طبيعة الإنسان، بينما الروح القدس لم يأخذ طبيعة الحمامة. لذلك لم يقل الإنجيلي إن الروح ظهر "بطبيعة حمامة" بل قال "بشكل حمامة". ولم يظهر الروح بعد ذلك بهذا الشكل، الحقيقةُ شيءٌ والتدبير شيءٌ، التنازل شيءٌ، والظهور العابر شيءٌ آخر.
2 - معمودية الروح القدس
"فقال لهم هل أخذتم الروح القدس لما آمنتم فقالوا له: لا بل ما سمعنا أنه يوجد روحٌ قدسٌ* قال: فبأية معمودية اعتمدتم فقالوا: بمعمودية يوحنا* فقال بولس إن يوحنا عمَّد بمعمودية التوبة قائلاً للشعب أن يؤمنوا بالذي يأتي بعده أي بالمسيح يسوع* فلما سمعوا اعتمدوا باسم الرب يسوع ووضع بولس يديه عليهم فحلَّ الروح القدس عليهم" . كل من يجهل الروح القدس يجهل يسوع المسيح. كان يوحنا يعلِّم أن المسيا ينبغي أن يأتي "توبوا فقد اقترب ملكوت السموات". ثم يعمِّد كل من التزم حياة توبة في سبيل تهيئة نفسه لاقتبال المسيا الآتي. يقول :"الآن وضعت الفأس على أصل الشجر. فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار. أنا أعمدكم بماء التوبة. ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني...هو يعمدكم بالروح القدس والنار" (مت10:3-11) بهذه الأقوال يبيِّن المعمدان أن الأمر يتطلَّب فقط استعداداً حسناً، أي توبة واعترافاً وإيماناً، وليس بالضرورة أتعاباً وأعراقاً. وبعد أن أظهر الفارق الشاسع بينه وبين المسيح بدأ يذكِّر قلة أهمية معموديته نسبة إلى معمودية المسيح وأنه لا يمكن أن يقدِّم لهم سوى الإرشاد إلى التوبة والاعتراف. لم يقل "بماء الغفران" بل قال "بماء التوبة". وعن معمودية المسيح قال "سيعمدكم بالروح القدس" يقصد غنى النعمة أي: مغفرة الخطايا، رفع اللعنة، الصلاح، التقديس، الخلاص، التبني، الأخوة. هذا كله تتضمنه مواهب الروح القدس الغزيرة. لم يقل سيعطيكم الروح بل قال سيعمدكم (سيغطسكم) بالروح القدس ونار مما يكشف عن قوة النعمة. من المحتمل أن تلاميذ يوحنا جاءوا إلى أفسس من منطقة لم تصل إليها الكرازة بالمسيح. كان يوحنا يكرز بمعمودية التوبة(أع24:13). لم يقل بولس لهم إن معمودية يوحنا ليست بشيء بل قال إنها لا تكفي وليست كاملة. فقال: معمودية يوحنا هي معمودية التوبة وليست معمودية غفران الخطايا، مرشداً إياهم إلى مقام أسمى، وموضحاً أن معمودية يوحنا لم تكن تمنح غفران الخطايا لأن الغفران الكامل يأتي من المعمودية باسم الرب يسوع والروح القدس.
القديس أمبروسيوس أسقف ميلان
شرح الرب نفسه سبب عماده: "اسمح الآن لأنه ينبغي لنا أن نكمِّل كل برْ" (مت 3: 15). من بين مراحمه الكثيرة بناؤه الكنيسة، فبعد الآباء والأنبياء نزل الابن الوحيد وجاء ليعتمد، هنا تظهر بوضوح الحقيقة الإلهيّة التي ذُكرت بخصوص "الكنيسة"، وهي إن لم يبنِ الرب البيت فباطلاً تعب البنَّاؤون". إذ لا يستطيع الإنسان أن يبني ولا أن يحرس: "إن لم يحرُس الرب المدينة، فباطل سهِر الحُرَّاس" (مز 126: 1). إني أتجاسر فأقول أنه لا يستطيع الإنسان أن يسلك في طريق ما لم يكن الرب معه يقوده فيه، كما هو مكتوب: "وراء الرب إلهكم تسيرون وإيَّاه تتَّقون" ( تث 13: 4)، "الرب يقود خُطى الإنسان" (حك 20: 24)... الآن تُخلق الكنيسة... يقول "اسمح الآن"، أي لكي تُبني الكنيسة، إذ يليق بنا أن نكمِّل كل برْ.
القديس اوغسطين
عندما انفتحت السماوات ونزل الروح القدس في شكل حمامة، تبعه صوت من السماء قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" إذن هنا أمامنا صورة الثالوث كما لو كان منفصلاً: الآب في الصوت، الإبن في الإنسان، الروح القدس في شكل حمامة.. هنا يظهر لنا الثالوث القدوس متمايزاً، الواحد عن الآخر .. إنهم الله الواحد ومع ذلك فإن الابن غير الآب، والآب غير الابن والروح القدس ليس نفسه الآب وليس نفسه الإبن. نحن نعلم أن الثالوث لا يُنطق به، يسكن في ذاته، يجدد الكل، يخلق، يدعو، يدين ويخلّص، هذا الثالوث هو كما لا ينطق به وغير منفصل".