جلس الناسك على قارعة الطريق كعادته يغزل من نسمات هواء الصباح تسابيحه ،
إذ كانت روحه تنحني شكرًا وحمدًا مع تمايلات أوراق الشجر …
وبينما هو جالسٌ مرّ عليه جابٍ للضرائب ،
معروفًا للمدينة كمصدر للمصائب ،
فانتصب الناسك قبالته وغمره بابتسامه حانيّة بددت غربته ،
اقترب منه وهو يدندن في آذانه: “أحبب الآخرين” ،
بدأت كلمات الناسك تخترق منه القلب ، وصار أقرب للنور منه للكرب ،
وإذ بجمعٍ مار في الطريق لا يعرف أيدي الطبيب من أيدي الصديق ،
رمق الناسك والجابي بنظرة قاسية وأهال عليهما من التراب زوبعة عاتية ،
قاذفًا إياهما بجلّ الشتائم فالناسك قد عاضد الجابي في قسم المغانم ،
فما كان من الناسك إلاّ أن رفع عينيه إلى العلاء
طالبًا الصفح عنهم وملتمسًا لهم في العقل نورًا وصفاء ..
وفي اليوم التالي مرّت امرأة كانت مشهورة بالبغاء،
ومنه كانت ترتزق في ليالي الشتاء،
فوقف أمامها فارتعدت عظامها،
وغمرها بأعينه الحانيّة، فكانت كقطرات مياه تغسل منها ذنوبها القانية ،
وإذ بجمعٍ مار في الطريق لا يعرف أيدي الطبيب من أيدي الصديق ،
رمق الناسك والمرأة بنظرة قاسية وأهال عليهما من التراب زوبعة عاتية ،
قاذفًا إياهما بجلّ الشتائم فالناسك قد سقط مع المرأة في مستنقع المحارم ،
فما كان من الناسك إلاّ أن رفع عينيه إلى العلاء
طالبًا الصفح عنهم وملتمسًا لهم في العقل نورًا وصفاء ..
وفي اليوم الثالث مرّ عليه كاهنٌ لوثنٍ، فوقف أمامه وعانقه بوجه حسن.
فابتسم الكاهن الجَهِم شاعرًا بنورٍ يأتيه من هذا الوجه الهرم.
وإذ بجمعٍ مار في الطريق لا يعرف أيدي الطبيب من أيدي الصديق ،
رمق الناسك والكاهن بنظرة قاسية وأهال عليهما من التراب زوبعة عاتية ،
قاذفًا إياهما بجلّ الشتائم وكأن الناسك قد ارتدى بعناق الكاهن نفس العمائم .
فما كان من الناسك إلاّ أن لملم قلبه الرحيم
فالحبّ في المدينة مدان كجرمٍ عظيم
فأيدي المحبّة العمياء
كان عليها أن تبصر قبل أن تمتد لعناق الغرباء
ولكن الحبُّ دومًا كان كالعطاء
يُقَدّم للجميع دون استباق بالوفاق
فشرطية الحبّ فقرٌ
وحملقة العطاء ما هي إلاّ قيود أسر
رحل الناسك باحثًا عن بلدان الحبّ الساطعة
تاركًا غابات الإنسان المتنازعة المتصارعة
فيا أيّها النور أشرق بالضياء
وبدّد أوهام النور من عقول الظلمة والعماء
كانت تلك هي صلاته الأخيرة …