الله يخاطبنا بلغتنا ـ العلامة اوريجانوس
الله الذي لا يندم يقال عنه أنه يندم بحسب نص الأسفار المقدسة. لننتبه جيداً إلى النص حتى يمكننا أن نستوعب المعنى. “تارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالقلع والهدم والإهلاك فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها فأندم عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها. وتارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالبناء والغرس فتفعل الشر في عيني فلا تسمع لصوتي فأندم عن الخير الذي قُلت أني أحسن إليها به” (إر 18). فيما يخص ندم الله، نحتاج أن ندافع عن أنفسنا. لأنه يبدو أن الندم أمر مُلام وغير لائق ليس فقط لله وإنما أيضاً بالنسبة للإنسان الحكيم. لأنني لا أتقبل فكرة أن يندم إنسان حكيم، لأن الذي يندم – بالمعنى المعتاد للكلمة – يفعل ذلك لأنه لم يأخذ من البداية الجانب الصحيح أو الرأي الصائب. لكن الله الذي يعرف مسبقاً ما يحدث في المستقبل، لا يمكنه أن يأخذ أي جانب آخر سوى الجانب السليم والرأي السديد.
كيف إذن تنسب الأسفار المقدسة الندم لله؟
وفي سفر الملوك، يذكر في النص: “ندمت على أني قد جعلت شاول ملكاً” (1 صم 15)
ويقال عنه أيضاً بشكل عام: “ويندم على الشر” (يؤ 13:2)
لنرى ماذا يقوله الكتاب عن الله. يقول “ليس الله إنساناً فيكذب ولا ابن إنسان فيندم” (عدد23)، نتعلم من هذه الآية أن الله ليس إنساناً. لكن من خلال نص آخر نتعلم أن الله يتشبه بالإنسان، عندما يقول: “فأعلم في قلبك أنه كما يؤدب الإنسان إبنه قد أدبك الرب إلهك” (تث 8)، كإنسان يتبع أساليب ابنه.
إذا عندما يتكلم الكتاب المقدس عن الله لاهوتياً في ما يخص ذاته، دون أن يتطرق إلى خطته وتدبيره الإلهي للأمور البشرية، يقال عنه أنه “ليس إنساناً” وأن “ليس لعظمته إستقصاء” (مز 154)، وأنه “مهوب على كل الآلهة” (مز 96). وأيضأً: “سبحوه يا جميع ملائكته. سبحوه يا كل جنوده. سبحيه أيتها الشمس والقمر. سبحيه يا جميع كواكب النور” (مز 148). يمكنك أن تجد آيات أخرى متعددة في الأسفار المقدسة تؤكد هذا المعنى.
لكن عندما يتضمن التدبير الإلهي الأمور البشرية، يحمل الكلام فكر البشر وأسلوبهم وطريقتهم في الكلام. تماماً كما نفعل نحن حينما نتحدث إلى طفل عمره سنتين، نتكلم بحركات وأصوات تناسب الطفل، أما إذا احتفظنا بوقارنا وأصررنا على الحديث مع الأطفال بلغة البالغين، ولم نتنازل لنتكلم بأسلوب كلامهم، فلن يفهموا شيئاً. هكذا أيضاً يفعل الله في اهتمامه بالجنس البشري، خاصة الذين لا يزالوا أطفال منهم (1 كو 3).
أنظر كيف نحن البالغين نقوم بتغيير أسماء الأشياء بالنسبة للأطفال الصغار، فندعو “الطعام” بشكل خاص من أجلهم (تاكل مام)، وندعو “الشراب” بكلمة أخرى تناسبهم (أمبو)، دون إستعمال مفردات البالغين الذي يستخدمها البالغون في أحاديثهم، لكن نتكلم بنوع ما من الأسلوب الطفولي في الكلام. وعندما نسمي الثياب للأطفال نختار لها أسماء أخرى، وكأننا نُشكل أسماء طفولية من أجلهم. ماذا إذاً؟ هل نحن أشخاص غير ناضجين بسبب هذا؟ وإذا سمعنا أحد ونحن نتكلم مع هؤلاء الأطفال فهل يقول: لقد فقد هذا الشيخ عقله وتناسى شيبته ووقاره؟ أم أنه أمر مسلم به أنه بدافع الاهتمام بالطفل نتكلم معه لا بلغة البالغين بل بلغته الطفولية.
بالمثل يتحدث الله أيضاً إلى أطفال. قال المخلص: “ها أنذا والأولاد الذين أعطانيهم الله” (إش 8، عب 2). يمكن القول عن البالغ الذي يتكلم مع الطفل بشكل طفولي – أو يتكلم كرضيع – أنه قد أتخذ أسلوب ابنه، أو أتخذ طريقة الرضع ونزل إلى حالتهم. بطريقة مماثلة نفهم الكتاب حينما يقول: “وفي البرية حيث رأيت كيف حملك الرب إلهك كما يحمل الإنسان ابنه” (تث 1).
بما أننا في الواقع نندم كبشر، فإن الله عندما يريد أن يخاطبنا بلغتنا يقول: “أندم”. وعندما يهددنا لا يظهر نفسه بصورة من يعلم المستقبل، بل ينذرنا كما لو أنه يخاطب أطفالاً. لا يظهر بكونه “البصير بالخفايا والعالم بكل شيء قبل أن يكون” (دا 13: 42)، لكنه كمن يلعب دور طفل – إن جاز التعبير – يتظاهر بأنه لا يعلم المستقبل. ويتوعد الأمم على خطاياها ويقول: إذا رجعت هذه الأمة عن شرها، سأندم أنا أيضاً عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها (إر 18). آه أيها الرب، عندما كنت تهدد، ألم تكن تعلم ما إذا كانت هذه الأمة سوف تتوب أم لا؟ وحينما كنت تعطي وعوداً، ألم تكن تعلم ما إذا كان الإنسان أو الأمة التي وجهت إليها وعودك سوف تظل مستحقة لتلك الوعود أم لا؟ بالطبع يعلم كل شيء، لكنه يتظاهر بعدم المعرفة.
يمكنك أن تجد في الكتاب المقدس الكثير من العبارات البشرية التي من هذا النوع، كما في الآية التالية: “تكلم مع بني إسرائيل، لعلهم يسمعون ويتوبون” (إر 33: 3 س)، ليس أن الله غير متأكد، عندما قال: “لعلهم يسمعون”، فالله لا يتحير في الأمر حتى يقول هكذا، لكنه قال ذلك حتى يظهر بوضوح حرية إرادتك، حتى لا تقول: “بما أن الله يعرف مسبقاً إنني سوف أهلك إذاً لابد أن أهلك”، أو “بما أن الله يعرف مسبقاً إنني سوف أخلص إذاً فإنني لابد وأن أخلص”.
هو يتظاهر إذاً بعدم رؤيته لمستقبلك، حتى يحمي حرية إرادتك، بعدم إخباره مسبقاً إن كنت سوف تتوب أم لا، ويقول للنبي: ” تكلم، لعلهم يتوبون”.
ويمكنك أن تجد فقرات كثيرة من الكتاب المقدس تظهر إتخاذ الله لأسلوب الإنسان. فإذا سمعت عن غضب الله وسخطه (تث 29)، لا تظن أن الغضب والسخط إنفعالات موجودة في الله. القصد من إستخدام هذه الطريقة في الحديث هو تغيير وتحسين الطفل الرضيع، إذ أننا نحن أيضاً حينما نريد أن نوجه أطفالنا نستخدم عبارات مخيفة، ليس لكونها نابعة من حالة ذهن حقيقية بل من أجل غرض إحداث الخوف في أنفسهم. إذا أظهرنا على وجوهنا التسامح والتساهل الموجود في نفوسنا ومشاعرنا الداخلية تجاه أطفالنا بشكل دائم، دون أن نغير ملامح وجوهنا بحسب تصرفات الأطفال، نفسدهم ونردهم إلى الأسوأ. هكذا أيضاً وبهذه الطريقة يتكلم الكتاب عن غضب الله وسخطه، وذلك بهدف توبتك وإصلاحك. فالله في الحقيقة لا يغضب ولا يسخط، لكنك أنت هو الذي يختبر تأثير الغضب والسخط عندما تجوز الأوجاع الرهيبة بسبب خطاياك، في حالة تأديب الله لك بما يسمى “غضب الله”.