نريد يوحنويون
وقف العهد القديم يستصرخ أنبياءَه، في زمنٍ عُرف " بزمن القطيعة " ، حيث شحّ الحق وتقدّم الباطل وتربّع الفجور على كراسي الحكام والأباطرة ، كما ضرب العقم كثيرًا من رجال الدين والكتبة والقادة الروحيين، فباتوا أكثر قساوةً من عمودي الهيكل يقرأون الحجر ويقدّسونه ولا يأبهون بالبشر.
قلةٌ عرفت الرّب، وكمٌّ بسيطٌ أدرك طريق الخلاص، فالتصقوا بروح الهيكل ينظرون الشعلة علّ الله يقبل قربانهم، ويُشرق بوجهه على القطيع التائه فيعمّ الحنان.
وقف الشيخ يلهج بالله ويتذكّر المواعيد، فكان طيفًا ملائكيًا يُدعى زكريا ( أي الله يذكر) ، يعي حضورًا إلهيًا وينتظر بلاغًا. فقد اعتاد هذا الشيخ أن يصليّ، في الهيكل كما في المنزل، يقرأ المزامير ويحرق البخور عنه وعن الشعب.
بارًّا كان أمام الله وليس أمام الشعب فقط، هو وزوجته اليصابات (وهي الصيغة اليونانية لإسم لفظه في اللغة العبرية ((اليشبع)) أي الله قسم)، يخشى وإياها إله الصباؤت، يطلبان الرحمة والتحنن دون تذمرٍ أو عصيان.
عرفا من قرارة نفسيهما أن الكليّ القدرة ربّ المجد حنّان على شعبه وصادق في مواعيده، وهو رهيب ومرهوب، لذا لم يكن دخول زكريا الهيكل دخولًا اعتياديًا بل ترجمةً لما كان يعيشه في حياته اليوميّة، فكان في كلّ مرّةٍ يقف باكيًا وشاكيًا ورافعًا يديه أمام الله وفاتحًا صدره أمام خالقه يستجدي التوبةَ ويُقدّمَ الكفارةَ، يتلو الصلوات وبعدها ينتصبُ صامتًا سامعًا لا بل منتظرًا سلامًا سماويًا، فكان.
إلّا أن شيئًا من بشريته لم يكن قد تطّهر بعد، فَوُجِدَ حائرًا أمام أمرٍ خلاصي لم يستصعب حدوثه بل كان أكبر من أن يستدركه، فأمره الملاك بالصمت لحين تُولد نفسه من جديد مع مولوده الجديد، عندها يَصرخان معًا كزئير الأسد في وسط أدغال الخطيئة، الأول ينطق بحنان الله ويترجمه اسمًا - أي يوحنّا - والثاني يُعلن للمسكونة مجيء المخلّص.
ولكي تستكمل العطيّةَ، جاءت الأمّ العاقر(أليصابات) والدة الإله، فكان العرس السماوي: وجهان يلتقيان ليرتكض الجنين في بطن المتقدمة بالسن وتُعلن نبويًا " من أين لي أن تأتي أم ربي إليّ؟".
الجواب الأمثل لهذا السؤال هو السبيل المستقيم لقلوبنا لتستنير النفوس وتُقطَع جذور الخطيئة من أصولها، عندها نتراصف مع يوحنا المعمدان ننشد الملكوت الآتي ولا نهاب الموت ولا الإستشهاد، لأن رؤوسنا وإن قُطِعت، فهي مُعلّقةً في السماء ترنّم التسبيح الملائكي وتشهد وتقول: هذا هو حمل الله فاتبعوه.
ما أحوجنا اليوم إلى عائلاتٍ بارّة، أمام الله وليس أمام الناس، يخرج من رحابها "يوحنّويّون" يعلنون الحق ولا يساومون عليه، وهذا لا يمكن أن يكون إلّا إذا وعت العائلة وأدركت تمام الإدراك أن الالتصاق بالله هو خبز الحياة لأن يسوع هو الحياة، كما هو الضمانة المثلى لتوازن العائلة وإستمراريتها، لأن الإغتذاء من الكلمة الإلهية هو خير غذاء لمولوديهم.
فحبذا لو لا يقتصر فرحنا بكل ولادة جديدة في وسطنا، على المآدب الأرضية فقط، بل تكون سفرتنا امتدادًا للمائدة السماوية، عندها فقط يكون طفلنا - أنثى أو ذكرًا - عظيمًا عند الرّب. آمين.