تأمل روحي من وحي بشارة العذراءاختارها حرّة ومسؤولة:
يوم رأى ابن الله تسلّط الإنسان على البشر والحجر، مستخدماً مفهوم الحريّة الخاطئ، في تغذية أنانيّته، واطئاً بجهله قيمة الإنسان، مشوّهاً وجه الله في أعماله الدونيّة؛
تألّم الخالق لما حلّ بمن أمّنه على ما صنعته يداه، فقرّر، لفرط حبّه لمن خلقه، أن يترك بيت أبيه وينزل إلينا متجسّداً، كي يخبرنا بالممارسة، أنّ الحرّية هي فعل عطاءٍ مجّانيّ كامل،
وإرادة خيّرة نابعة من القلب والفكر بحبٍّ ويقين: "ما من أحدٍ يأخذ حياتي منّي، بل أنا أضحّي بها راضيا" (يو10/18).
لذلك، إنتقى شخصاً يشبهه بالاختيار الحرّ والتصميم، يلتقي معه على إتمام مشروع الخلاص"بحرّية أبناء الله"، فكانت مريم ذلك الشخص المختار.
فتاة متواضعة وشجاعة في آن، عرفت ما تريده منذ أن فتحت عينيها على الله، وآمنت بأنّ الحرّية تكمن في تقدمة الذات حتّى الثمالة؟!
فتاة، ما كانت أعوامها السّتّة عشَرَ إلاّ عدداً دُوِّنَ في سجلّها الزمنيّ، جعل مراهقتها تمرّ سريعاً "مرور الأمس الغابر"، لتصبح راشدةً ناضجةً، صاحبة قرار واعٍ، واثقةً ملتزمة بمن اختارته لها نصيباً(الروح القدس).
فلو عدنا إلى سؤال مريم الملاك:" كيف يكون لي ذلك..؟" ، لَخَطَرَ ببالنا عدم ثقتها بالله، ولكن، أليست هذه "الكيف؟" ما كانت تشغل بال تلك الفتاة النّاصريّة، طول السّنوات التي سبقت البشارة حتّى خطبتها على يوسف؟
كانت تعلم في قرارة نفسها، أنّها مدعوّة إلى تكريس ذاتها، نفساً وجسداً، بالبتوليّة، للآب، إنّما كان من الصعوبة بمكان، أن يتمّ ذلك في مجتمع متزمّت، لا يرى في الفتاة إلاّ امرأة عاملة في الحقل والمنزل، تنجب وتربّي...
وإلاّ كانت عاراً عليه وعلى أهلها؛ فراحت تطيل الصّلاة والتأمّل، وتَغْرف من كلام الله والمزامير كلّ ما ينير لها السّبيل للخروج من تلك "الأحجية" سليمة معافاة، غير ملطّخة السّمعة بافتراءات أهل السّوء. لذلك لم يتركها الله في حيرة من أمرها، فأتى جوابه لها بالكامل على لسان ملاكه، مظهراً ثقته الكبرى بها، كاشفاً للبشريّة جمعاء وجه مريم الحقيقي:
* المرأة المسؤولة: أعطاها الحقّ في تسمية المولود القدّوس ("سوف تسمّينه يسوع") على عكس عادة المجتمع الذكوريّ اليهوديّ الذي كان يعطي الحقّ للوالد، فقط، في تسمية مولوده.
* حوّاء الجديدة: المسؤولة عن تقديم الخلاص، بافتتاح صفحة جديدة من تاريخنا، خُطَّتْ فيها معاهدة صلحٍ أبديّة بين الله والإنسان وخُتِمَت بكأس الحبّ الإفخارستيّ.
* الأمّ البتول الشجاعة: مؤمنة بمحبّة الله وخوفه على أبنائه، فهمت قَصْده (قصد الله) من البشارة، بعد أن أنار لها السبيل الذي تبحث عنه،
كي تبقى أمينة على الوعد ببتوليّتها ("إنّ الروح يحلّ عليك وقدرة العليّ تظلّلك")، فتجلّى ذلك في إجابتها المقتضبة الواثقة، المتضمّنة قبولها مشروع الله بإيمان مطلق بما قاله لها، دون أن تطلب مزيداً من التفاصيل:
" ها أنا أمة الرّب، فليكن لي بحسب قولك"، وانتهى البيان الكلاميّ.
لقد وافقت بكلّ تواضع وطواعية، مُطْلِقَةً يدَيْها مستسلمة إلى حرّية الله كي تبدأ العمل معه، دون أن تُؤرِقَه بتساؤلاتها: ل
قد فهمت أنّ إرادة الله تقتصر على رؤية الإنسان صورته فيه، مكتشفاً من"هُوْ"، وأن ندرك أيضاً مدى أهمّيتنا في عينيه، وما علينا القيام به من أجل اسمه كي نرث معه إلى الأبد، دون أن يجبرنا على اختيار ما نريد.
فهل نحن على استعداد كي نكون شركاء في هذا المشروع الخلاصيّ؟ إن قبِلْنا، يعني أنّنا تَبَيّنّا فسحة الإيمان والثقة بين ما يعمله الله وما علينا فعله كأبناء، إذ في ذلك تتجلّى مسؤوليتنا في إحياء علاقتنا به.
إنّه حاضرٌ دوماً كي يسندنا " فلا نَخَفْ"، لأنّ في "زيارته" لنا، يتجسّد فينا النضج، ويكبر الإيمان، فنَجِد المعنى الحقيقي لحياتنا، ونولد فيه من جديد في سرّه الفصحيّ.