من يقدر أن يرسم صورة لمريم؟
_ يعقوب السروجي
كيف اصوّر صورة لهذه الفائقة الجمال بألوان بسيطة اذ لا يمكن مزجها لتصويرها؟
صورة جمالها اسمى وامجد من مزجي، ولا اتجاسر حتى يرسم فكري صورة لمحياها.
يسهل علينا تصوير الشمس بنورها وحرارتها اكثر من وصف خبر مريم في مجدها،
فيما لو تجاسر أحد باي نظام يقدر ان يصورها؟ وفي اية طغمة هي مختلطة لتوصف بها؟
هل في البتولات؟ وفي القديسات والعفيفات؟ وفي نساء الرجال؟ وفي الوالدات؟ أو في الامهات؟
هوذا جسم الممجدة يحمل البتولية والحليب: الولد كامل والحضن مختوم ومن يفهمها؟
قبل أن تُرى قائمة في جموع الشابات، رأيتُها تعطي الحليب للطفل مثل الامهات،
قبل ان اسمع بان يوسف رَجلها يجلس معها، رأيتُ بانها لم ترتبط بالزواج،
قبل ان اصمم لأحصيها في طغمة البتولات، أتاني الصوت: هوذا مخاض الولادة قد هجم عليها،
أفكر لأسميها زوجة بسبب يوسف، وأؤمن بانها لم تُعرف من قبل أي إنسان مائت،
أنظر اليها وهي تحمل ابن الوالدات، وأرى بانها تقوم في درجة البتولات،
انها بتول، وأمّ، وامرأة رجل، وغير متزوجة، فكيف أتكلم لو اتكلم لأنها لا تُدرك؟
المحبة تحركني لأتكلم عن البهية ولكن سمو الكلام أقوى مني، وماذا اعمل؟
أصرخ علناً بانني لم أتمكن ولن أتمكن، ولكني أعود لأسرد بدافع الحب خبر الممجدة،
المحبة فقط لا تلام لما تتكلم، لأن تمييزها محبوب ومفرح ويثري من يسمعه،
أتكلم بعجب عن مريم وأنا خائف: الى اي مقياس عظيم صعدت بنت (البشر) السفليين؟
هل النعمة أحنت الابنَ عندها؟ أم هل هي جَمُلت لتصير أمّا لابن الله؟
من الواضح بان الله نزل الى الارض بالنعمة، وقبلته مريم لانها كانت طاهرة جدا،
نظر الى تواضعها وحلمها وطهارتها، فحل فيها اذ يسهل عليه ان يحل في المتواضعين،
إلى من انظر إلاّ الى الودعاء والمتواضعين؟
فنظر وحل فيها لأنها كانت اكثر تواضعا من كل المولودين.
هي نفسها قالت: نظر الى تواضعها وحلَّ فيها، ولهذا فانها تُمدح لانها جملت كثيرا،
التواضع هو حد الكمال، لما يسبق أحد وينظر الى الله حينئذ يتواضع،
موسى العظيم كان متواضعاً أكثر من كل احد، فنزل الله عنده على الجبل بالتجلي،
يُرى ايضا التواضع لدى ابراهيم الذي سمى نفسَه تراباً ورماداً بينما كان باراً،
يوحنا ايضا كان متواضعاً لما كان يكرز بانه ليس مستحقاً أن يحل سير حذاء الختن ربه،
بالتواضع تسربل المنتصرون في الاجيال المختلفة،
لانه الطريق العظيمة التي بها يقترب الانسان عند الله،
لكن مثل مريم لم يتواضع أحد من عالمنا، ومن الواضح بانه لم يرتفع أحد مثلها،
الرب يعطي النعمة حسب التواضع: لقد جعلها امه، ومن هو مثلها في التواضع؟
لو وُجدت اخرى أطهر وأكثر حلماً منها، لكان يحل فيها وكان يتركها ولا يحل فيها،
ولو وُجدت نفس أبهى وأقدس من نفسها، لكان يختار تلك ولكان يتركها،
ربنا نظر الى كل النساء لما نزل الى الارض، فاختار له واحدة: تلك التي كانت أجملهن،
فحصها ووجد فيها التواضع والقداسة والحواس النقية والنفس التي تحب اللاهوت،
والقلب النقي وكل أفكار الكمال، ولهذا اختار الطاهرة المليئة جمالا،
نزل من موضعه وحل في المجيدة لأنه لم يكن لها في العالم رفيقة تشبهها،
واحدة متواضعة وطاهرة ونقية وبدون دنس وهي كانت مستحقة لتصير أمه وأخرى لا،
تطلع اليها ووجدها سامية وطاهرة من الشرور ولا تثور فيها الحاسة المائلة الى الشهوات،
ولا التفكير الذي يفسح المجال للعهارة، ولا عِشرة العالم التي تنجب المضرات الشريرة،
ولا تشتعل فيها محبة أباطيل العالم، ولا تتصرف بافعال المراهقات،
ورأى بانه لا توجد في العالم من تشبهها، فاخذها أمّا ليرضع منها الحليب الطاهر،
كانت متميزة ومليئة محبة لله لان ربنا لا يحل حيث لا توجد المحبة،
لما صمم الملك العظيم أن ياتي الى موضعنا، ورضي أن يحل في أطهر ناؤوس في كل المسكونة،
وفي الحضن الطاهر الذي كان مزيناً بالبتولية، وفي الافكار التي كانت مستحقة القداسة،
انها مليئة جمالا في طبيعتها وفي إرادتها، لانها لم تتوسخ بالشهوات غير الحسنة،
منذ طفولتها قامت في الاستقامة بدون دنس، وبدون أرجاس مشت في الدرب بدون عثرات،
الطبيعة المحفوظة مع إرادة الخير، والبتولية في جسدها، وكانت موجودة كل يوم الاقداس في نفسها.
الفعل الذي جرى فيها ساعدني لأقول هذه الامور عن الجميلة التي لا توصف،
رأيتُ وصدّقت بانها صارت امّا لابن الله لانها هي وحدها المرأة الاطهر في العالم كله.
منذ ان عرفت أن تميز الخير من الشرور قامت في نقاء القلب وفي الافكار القويمة،
لم تحِد عن البر الذي بحسب الناموس، ولم تقلقها الأهواء المذمومة والجسدية،
منذ طفولتها تحركت فيها نبضات القداسة، وبتمييزها ربّتها فيها باحتراس،
كان الرب موضوعا إزاء عينيها في كل ايامها، وكانت تنظر اليه لتستنير منه وتلتذ فيه،
وإذ وجد كم أن نفسها طاهرة ونقية، أراد أن يحل فيها لأنها كانت نقية من الشرور،
وإذ لم توجد مثلها امرأة قط، فقد تم فيها العمل العجيب الذي هو الأعظم من الكل،
كانت تلزم بنت انسان واحدة من الاناث، فاختيرت هي لأنها كانت أجمل جميعهن،
الآب القدوس شاء أن يجعل امّا لابنه، ولم يجد مثل تلك التي اختارها لتصير امه،
الصبية المليئة جمالاً خفياً منها وعليها، وقلبها نقي لترى الاسرار التي تمت فيها.
هذا هو الجمال: لما يكون المرء جميلاً من الحرية، وبإرادته ينتصر جمال الكمال،
مهما جمل الشيء الصادر من الله لا يُمدح لو لم تكن الحرية موجودة،
الشمس جميلة ولكنها لا تمدح من ناظريها، لأن إرادتها ليست هي التي أعطتها النور
من هو جميل هو جميل من الحرية ومالك جمالاً ولهذا يُمدح لو كان جميلاً،
الله ايضاً يحب الجمال الذي يصدر من الارادة ويمدح الارادة الصالحة حينما تصنع مسرته،
وهذه البتول التي يوصف خبرها من قبلنا قد جملت واختيرت بفضل ارادتها الصالحة،
هو نزل ليصير انسانا من بنت الانسان، ولانها قد جملت فقد اختيرت ليصير منها،
ولكون نعمته اعظم من كل المولودين، فجمال مريم يُمدح اكثر لأنها صارت امه،
لقد جملت واختيرت من قبله بتواضعها وبطهرها وباستقامتها وبارادتها الصالحة،
لو جملت أخرى اكثر منها لكان يختارها، لأن الرب لا يحابي لأنه عادل ومستقيم،
لو كان يوجد دنس او نقص في نفسها، لكان يفتش له عن أمّ اخرى لا دنس فيها،
هذا الجمال الأطهر من كل جمال يقوم بالارادة الصالحة بالنسبة لمن يقتنيه،
ولهذا يلزم ان يتعجب كل واحد من هذه الممجدة:
كم أنها جملت حتى أن الرب اختارها أمّا له!
المرجع: ميامر يعوب السروجي، الميمر 196، ترجمة الأب بهنام سوني.