المَثَلُ الصَّالِحُ
لا تُؤْخَذُ الحياة المسيحيّة إلَّا بالقدوة. لذا، كان البيت المسيحيّ هو الحاضِن للحياة المسيحيّة بامتياز. خارج البيت المسيحيّ يتأثّر ناسُ الكنيسة بجماعات قليلة وببعض الأفراد، هنا وهناك، نحو إيمان فاعِل بالمحبّة. الكتب والمواعظ والأحاديث، بعامّة، تساعد، لكنّها لا تكفي. ولعلّ روح الرّبّ يَنْقَدِحُ في بعض القلوب من جرّائها إذا ما كانت عند فلان أو فلان استعدادات طيِّبة، أو لأسبابٍ، الله بها أعلم.
لهذا السّبب، قلْ لي ما واقع العائلة أَقُولُ لك، بعامّة، أيّ جيل تُنْشِئ.
المسيحيّة نمط حياة يُؤخَذُ بالخبرة، على نحو ما أوصى به ناسِكٌ تلميذَهُ، لمّا سأله هذا الأخير:
"ماذا تريدني أن أعمل؟"، فأجابه النّاسك:
"كلّ ما تراني أعمله اعمله أنت أيضًا!".
جرجي نَاهَزَ الثّمانين. أُحِبُّ، دائمًا، أن أجلس إليه لأنّه يخبرني عن المدرسة الّتي تعلّم فيها، أقصد مدرسة البيت. تعلّم قليلًا في مدرسة مار يوحنّا المعمدان في دوما. ولكنْ، ما انْطَبَعَ في وجدانه يعود إلى ما درّبه عليه، بخاصّة، جدّاه.
ممّا نقله من أيّام طفولته، أنّ جدّه، أبا حنّا، وعده، ذات مرّة، وكان عمره خمس سنوات، أن يأخذا الحمار ويذهبا معًا إلى كرم العنب، على بُعْدِ حوالي ساعة ونصف السّاعة من البيت. قال له نذهب بعد غد.
في اليوم التّالي، مرض أبو حنّا مرضًا شديدًا وارتفعت حرارته إلى أربعين درجة مئويّة. فلمّا حلّ اليوم الموعود، وكان الجدّ، بعدُ، على حاله، نادى أمّ حنّا أن تُعِدَّ له ملابسه لأنّه سيذهب مع حفيده جرجي إلى الكرم. فَعَلَا صوتُها واتّهمته بالجنون!. فلم يقتنع. قال لها: وَعَدْتُ الصّبيّ ولا أُريد أن أُغَيِّر في وَعْدِي له، لكي يتعلّم ألَّا يعود عن وعده، تحت أيّ ظرف، متى قطع وعدًا لأحد!. وهكذا، ذهب الجَدُّ والحفيدُ وأَتَمَّا ما اتَّفَقَا عليه. وقد لازَمَ أبو حنّا الفراش، بعد ذلك، أسبوعًا كامِلًا في حال صعبة. مرّت الأيّام، لكن جرجي حفظ الدّرس جيِّدًا ولم ينسَه!.
مرّة أخرى، سَأَلَتْ أمّ حنّا حفيدها جرجي، وكان في ذات العمر تقريبًا: اِصْعَدْ إلى السّطح وَأْتِنِي ببصلَتَيْن حمراوتَيْن. نَبَّهَتْهُ أن لا يأخذ شيئًا من السّطح الّذي هو فوقهما مباشرة، بل من السّطح الأخير، لأنّ ما هو فوقهما مباشرة هو للجيران وليس لهما. صعد الصّبيّ إلى السّطح، ولرعونته أتى بكُوزَي بصل من السّطح الأوّل. فلمّا نزل إلى جدّته قالت له: رُدَّهُمَا!، لقد قُلْتُ لك أنّ البصل الّذي هو فوقنا مباشرة هو للجيران وليس لنا. قالت له ذلك ونَهَرَتْهُ. فصعد من جديد وفعل كما علّمته جدّته. ومرّت الأيّام، وبلغ جرجي الخامسة والسّبعين. عاد من أوستراليا حيث أمضى أكثر عمره. وفيما هو يتنزّه في الحقل، ذات صباح، لفته عنقود عنب شهيّ المنظر. فدنا منه وأراد قطفه. وإذا بصوت جدّته يتردّد في وجدانه: هذا ليس لنا يا بنيّ!، فانْتَبَهَ وتأدَّبَ وانصَرَفَ!.
المدرسةُ الأهمُّ الّتي نحن بحاجة لأن نَتَنَشَّأَ فيها هي الّتي تعلّمنا السّلوك المسيحيّ والفضائل والصّلاة والصّوم، وكلّ ما يجعلنا نتصرّف بمخافة الله. المدرسة الّتي نتعلّم فيها القراءة والكتابة والحساب والتّاريخ والجغرافيا وما سوى ذلك تساعدنا في التّعامل مع النّاس، ولكن مدرسة الفضائل هي الأساس. ما المنفعة، إذا نجحنا في المدرسة ونلنا علامات جيّدة وكنّا أنانيّين، لا نحبّ إلّا أنفسنا، متكبِّرين، نعامل الآخَرين باحتقار، كذّابين، لا نحفظ وعودنا للنّاس، ونمدّ أيدينا إلى ما ليس لنا؛ ونتكلّم بالسّوء على الآخَرين؟...
والأهل، لكي يعطوا أولادهم دروسًا في المحبّة والمسامحة والتّضحية والصّبر والخدمة وغير ذلك، عليهم أن يسلكوا هم، أوّلاً، في ما يريدون أولادهم أن يتعلّموه منهم. وإلّا فإنْ سمع الأولاد ذَوِيهِم يقولون بعكس ما يفعلون ويفعلون بعكس ما يقولون، فإنّ هذا سوف يكون جارِحًا ومؤذِيًا لنفوسهم، وسوف ينطبع في أذهانهم أنّه لا حاجة لأن يكون الإنسان مستقيمًا في ما يفعل ولا أمينًا في ما يَعِدُ به.
تربية نفوس أولادنا هي الأساس الّذي نبني عليه صروح الحضارة في مجتمعنا،
ونشهد بها لإيماننا بالرّبّ يسوع المسيح!.