الإيمانُ ومَعْرِفَةُ الذَّاتِ
من أصعب المواضيع اللَّاهوتيّةِ هو موضوعُ الإيمانِ، وفَهمُ مَداهُ وعُمقِه الوجوديَّين، وأَبعادِهِ على الإنسان الـمُعاصِر. مِن مُسَلَّمَاتِ الإيمانِ المُسْتَقِيمِ وجودُ اللهِ في المسكونةِ والكون. ومن الـمُستحيل أن نجعلَ من هذه الـمُعطياتِ موضوعًا للبَحثِ، إذ إنّ العقلَ البشريَّ محدودٌ بِلاوُجوديَّتِه بالمقارنَةِ بوجود الإله المالئ الكلّ.
فالإنسانُ موجودٌ لأنَّ الله الّذي خلقَهُ موجودٌ. وهكذا، المخلوقُ من العَدَمِ يبقى عَدَمًا، ولو هو حَيٌّ يتحَرَّكُ، ما لم يُنَمِّ علاقَتَهُ بالله الّذي دعاهُ إلى الخروجِ من أرضِ العبوديَّةِ إلى ملكوتِ الميراثِ الأبديِّ. فكيفَ يَعِي الإنسانُ هذا الوجودَ وكيفَ يعرِفُهُ؟. هذا الغَرَضُ يَعْسُرُ الوُصولُ إليه ما لم يَكْشِفِ اللهُ ذاتَهُ لبشريّةِ الدّنيا.
فالكشفُ الإلهيُّ هو موهَبَةُ اللهِ للبشرِ. اللهُ الثّالوثُ، بهذا يَهَبُ الإيمانَ، أي يَهَبُ معرِفةً أساسيّةً ومبدئيّةً عنهُ لكُلِّ النّاسِ بطرقٍ مُتَنَوِّعَةِ الاختلافِ. ما يعيهِ المسيحيّ عن الله، بطريقةٍ ولو نظريّةٍ، قد تسلَّمهُ من الكنيسةِ، من الكتاب المقدّس والآباء القدّيسين. ولكنَّ كلّ هذا لا يجعلُ من الشّخصِ إنسانًا مؤمِنًا. فطريقُ الإيمانِ وموضوعُه ليسَ الله بل كيفيّة الوصولِ إليه، أي بُغيتهُ، وبكلامٍ آخَر، أن يقيمَ المجبولُ علاقةً بجابلهِ الّذي دعاه أوَّلًا إلى الاتِّحادِ به. نتيجةُ كُلِّ هذا أنَّ الإيمانَ بَحْثٌ بغيتُهُ معرفةُ اللهِ وحبُّه. إنّهُ لوَهمٌ أن يحبَّ الإنسانُ اللهَ دون معرفتِه، ولَجَهْلٌ معرفةُ اللهِ دون البَحْثِ عنهُ، والبَحْثُ لناقِصٌ دون الكَشْفِ.
"فَتِّشُوا الكُتُبَ" يقول المسيحُ لـمُخاطِبِيهِ. فالكتابُ يقول إنَّ "ملكوتَ اللهِ لهو في داخِلِكُم". وهذا يتطلَّبُ مِن طالِبِ الإيمانِ أن يبحثَ في داخِلِ نفسِهِ لكي يجد الله. يقولُ القدّيسُ نكتاريُوسُ في كِتابِهِ "إعرَف نَفْسَكَ"، إنَّ معرفةَ الذّاتِ لهي الطّريقُ الأَسْلَمُ للوصولِ إلى تفعيلِ الإيمانِ الموهوبِ للبشر، لأنَّ معرفةَ اللهِ تتطلَّبُ معرفةً للذّاتِ ومن ثمَّ للقريبِ. لا يستطيعُ أحدٌ، بحسبِ قدّيسِنا، أن يصِلَ إلى محبّةِ الله دون أن يكون قد وصلَ إلى درجةٍ من محبَّتِهِ لذاتِهِ ومن ثمّ للقريبِ. مَحَبَّةُ الذّاتِ هذه ليست محبّةُ القِنْيَةِ أو الغنى أو المصالِحِ البشريّةِ.
إنَّها محبّةُ خلاصِ النَّفسِ. هي السَّعْيُ وراءَ إعطاءِ الوِجْدانِ ما يَنْقَصُهُ، وَهذا هو الله. فالنّفسُ بطبيعتِها ومنذ الولادةِ، بسبب السَّقْطَةِ الموروثَةِ، تَقْني حواجزَ تعيقُها من التّقرب من الله. وبمرور الوقتِ تقتني حواجزَ أُخرى. فمعرفَةُ النَّفسِ، كما يقولُ أسقُفُ المدن الخمس، تتطَلَّبُ البحثَ عن تلك الحواجز ومعرفتِها وتسليمها لله الذي بقوّةِ ساعدهِ يُحَطِّمُها. ومن هنا، يتحقّق قول القدّيس بولس إنَّ "الإيمانَ قِوَامُ الأمور الّتي تُرْجَى وبُرْهَانُ الحقائقِ الّتي لا تُرَى" (عِب 11: 1).
وما الرّجاءُ - كما يقول آباؤُنا مُعَلِّمُو المسكونَةِ - إلّا أن يصبُوَ المرءُ إلى اللهِ الّذي سيخلِّصُه من عاقّاتِ النّفسِ و يَهَبُه القداسةِ؟. أن يعرفَ الإنسانُ ضَعَفاتهِ وأخطاءَهِ هو هدفُ البحثِ لتفعيلِ الإيمانِ. وبمعرفةِ النّفسِ يُشفِقُ الباحِثُ عليها ويُدرِكُ أنَّه يحبُّها إذ إنّها وديعةُ الخالقِ. وإن أحبَّها يُجاهِدُ بإدخال الله إلى عُمقِها، إذ إنّه يعي أنَّ الله قادِرٌ على شفائِها. وبعدما يشفي الله النّفسَ يكشف عن نفسِهِ بعمقٍ أكبر، فتتحرَّكُ النّفسُ صوبَهُ كالعاشِقِ إلى معشوقِهِ، فتَفقَه وتَعِيَ عِلَّةَ وجودها، فتصلُ تدريجيًّا إلى "برهانِ الحقائق الَّتي لا تُرَى".
أنتَ كمسيحيٍّ تعرِفُ أنَّ اللهَ موجودٌ وإنَّه وحدَه قادِرٌ على إنقاذِ نفسِكَ. فابدَأ، بمُساعَدَةِ أبٍ روحيٍّ، أن تكتَشِفَ ذاتَكَ وتُقرِّبَها هديّةَ إيمانٍ على مذبحِ اللهِ القدّوس.