«لا تخَفْ، أيُّها القَطيعُ الصَّغيرُ، لأنَّ أباكُمْ قد سُرَّ أنْ يُعطيَكُمُ الملكوتَ. بيعوا ما لكُمْ وأعطوا صَدَقَةً. اِعمَلوا لكُمْ أكياسًا لا تفنَى وكنزًا لا يَنفَدُ في السماواتِ... لأنَّهُ حَيثُ يكونُ كنزُكُمْ هناكَ يكونُ قَلبُكُمْ أيضًا. لتكُنْ أحقاؤُكُمْ مُمَنطَقَةً وسُرُجُكُمْ موقَدَةً»
(لوقا12: 32-35)
لا تخَفْ:
عندما يقول الرب: "لا تخف" فالكلمة هي وعد صادق منه لأن الكلمة تستمدّ قوتها من قائلها، وكل من يؤمن بالسيد المسيح، ويؤمن بالتالي بأقوال الله، عليه ألاّ يخاف، لان الخوف سيكون التالي هو ضد الإيمان، ويكفي أن يقولها الرب مرة واحدة لنؤمن به، فالأمر لا يحتاج إلى أن تُقال 365 مرة!
القَطيعُ الصَّغيرُ:
وقد وصف الرب سامعيه بأنهم "القطيع الصغير" – حيث هو الراعي، وقد استخدم الله على مدار الكتاب كله هذه الصورة، أي صورة الراعي والخراف، لشرح طبيعة علاقته بنا، لِمَا يتميّز به الراعي من صفات وكذلك الرعية؛ فالراعي يحب الخراف، ويضمن لها قُوتها، ويدافع عنها، كما أنه يعرفها بأسمائها وظروفها، أما الخراف فهي في المقابل تتبع الراعي، تطيعه، تثق به، وتحبه. وأمّا من جهة أنه "صغير"فالكلمة في القبطية تأتي "كوجي" ولها معنيان: صغير في السن وقليل من جهة العدد، أي أننا معرفون جميعًا مهما كان عددنا، كما أننا محبوبون لأننا "صغارٌ مدلّلون".
أباكُمْ:
ثم يشير إلى أنه أبونا، وهو الذي بدأ بدعوتنا هكذا واتّخذنا بنين له: «إسرائيلُ ابني البِكرُ. فقُلتُ لكَ: أطلِقِ ابني ...» (خروج 4: 22، 23)، كما طلب الينا: «مَتَى صَلَّيتُمْ فقولوا: أبانا...» (لوقا 11: 2)، وهي أغلى صفة في علاقته بنا، إنه إلهنا ومخلّصنا وربنا وسيدنا وخالقنا ومدبرنا ... الخ، ولكن يبقى دائمًا أن أعذب تلك الصفات أنه "أبونا":«لأنَّ أباكُمْ يَعلَمُ ما تحتاجونَ إليهِ قَبلَ أنْ تسألوهُ»(متى 6: .
سُرَّ أنْ يُعطيَكُمُ الملكوتَ:
فالملكوت هبة من الله ونحن نجاهد لكي نحتفظ بها، ومسرّة الله أن نكون معه في ملكوته: «... تأكُلوا وتشرَبوا علَى مائدَتي في ملكوتي» (لوقا 22: 30)، فإن كل جهاد الإنسان لا يمكن أن يساوي الملكوت أو يكون ثمنًا له، مثل الأعمال لا يمكن أن تخلّص الإنسان ما لم تكن نتيجة الإيمان السليم بالمسيح المخلِّص، لقد كان هناك بنون للملكوت ولكنه نُزِع منهم: «يأتونَ مِنَ المَشارِقِ والمَغارِبِ ويتَّكِئونَ مع إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ في ملكوتِ السماواتِ، وأمّا بَنو الملكوتِ فيُطرَحونَ إلَى الظُّلمَةِ الخارِجيَّةِ» (متى 8: 11-12). وأمّا ما قاله الرب عن أن «ملكوتُ السماواتِ يُغصَبُ» (متى 11: 12)، فالمقصود هو المحافظة علية ضد الخطايا والإغراء والإلحاد. واما من جهة الفعل "ُسرّ" فهو يعني ان ذلك تم منذ الازل وليس على اساس بر سوف يفعله الانسان لاحقا، وانما في الزمان المحدد لمن يؤمن ويتمسك بهذه العطية، وفي القديم تشفع موسى النبي في الشعب لدى الله لكي يغفر له والا فليمحُ اسمه من سفر الحياة الذي كتبه (منذ الازل).
إذًا فعطية الملكوت هي سرّ زهدنا في العالم، وسرّ الشجاعة التي تملأ قلوبنا طاردة كل خوف وكل قلق، فليس هناك عطية أو مُلك أو كرامة أفضل منها (فالذي نقل أمواله إلى بنوك مضمونة لا يمكن أن يقلق من أيّة اضطرابات في بلده، أو ضعف للاقتصاد، فإن نصيبه مضمون).
بيعوا ما لكُمْ وأعطوا صَدَقَةً:
تعبير "مالنا" لا يُقصد به النقود بل ما نملكه. ولكن لماذا الربط بين الصدقة وعطية الملكوت؟ لأن الصدقة تعني عدم الارتباط بالماديات والأرض هنا؛ ولأنها في الخفاء، فالله يرى في الخفاء ويجازي علانية. حقيقي أن الملكوت ليس ثمنًا لما نقدّمه من أعمال المحبة، ولكن هذه تعكس اهتمام الشخص بما هو آتٍ، بعكس الغني الغبي– والذي وردت قصته قبل هذا الحديث (لوقا 12: 16-21) – فهو معني بنفسه: "أنا" .. "أبني" .. "أقول لنفسي" ..الخ. هذا وقد ربط الرب في حديثه مع الناموسيين بين عمل الرحمة والنقاوة الداخلية: «أعطوا ما عِندَكُمْ صَدَقَةً، فهوذا كُلُّ شَيءٍ يكونُ نَقيًّا لكُمْ» (لوقا 11: 41)، ونعرف أنه «طوبَى للأنقياءِ القَلبِ، لأنَّهُمْ يُعايِنونَ اللهَ» (متى 5: .
لأنَّهُ حَيثُ يكونُ كنزُكُمْ هناكَ يكونُ قَلبُكُمْ أيضًا:
إنه تنبيه لكل إنسان: أين يوجد قلبه؟ "أين هي قلوبكم؟" هل عند الرب (كما نجيب عادة على الكاهن في القداس)؟ إن القلب يوجد حيث يوجد اهتمامنا: ربما عند البنك، أو عند الصوان "الدولاب" أو عند بعض الأشخاص، أو الممتلكات، أو الأماكن؛ بعكس الشخص الذي عيناه تتطلّعان دائمًا نحو السماء جهة المشرق، أو الذي ثبّت نظره على الأبدية، لا شكّ إن مثل هذا الإنسان سيستخفّ بأمور هذا العالم، والتي أطلق عليها الآباء: "أباطيل العالم".
فلاتخف مهما خسرتَ هنا، لأن الله وهبنا الملكوت، وسنحيا معه كأولاد مع أبيهمالمحب، فلنمنطق أحقاءنا، ونوقد سرجنا، وننتظره في شوق ولهفة