الخــــــــاطئ
إن سألت أي انسان عن الخطيئة يجيبك انها تعدي الوصية. يؤتى الجواب من اعتقاده ان الله آمر ناه. هذه صورة الله الشارع والقاضي. والرب هكذا لأنه يواجه الإنسان. بما في الخالق من جوهر وما في الإنسان من جوهر بمعنى انه لا يأمر اعتباطا ولا ينهى اعتباطا ولكنه ينطلق من ذاته ليقول واذا بدا لك قاضياً فلكونه يمدّك بصفات هي فيه. انه يقاضيك لأنه يريدك على صورته، لأنه جعل بينك وبينه مجانسة. انت تخطئ لأنك اخترقت هذه الوحدة الأولى، المنشئة اياك التي جعلها الله شبها بينك وبينه.
في اللغة من أخطأ الطريق عَدَلَ عنه ومن أخطأ الغرض لم يصبه. في المصطلح الديني انت تريد شيئا أمر الله به ولا تفعله أو تفعل شيئاً لم ترده وانت قاصد هدفًا ولم تبلغه واذا كان الله الهدف ولم تصل اليه أو لم تفلح في الوصول اليه فأنت خاطئ أو آثم او مذنب لأنك سهوت عن البلوغ. انت اذًا غير منشغل بالله، غير مخطوف اليه. واذا كان حب الله هو القوة للثبات فيه فأنت ما سعيت الى المكث فيه. فلا فارق عندك بين ان تلازمه أو تجانبه أو لا فارق بين ان تتصل وتنفصل. فاذا قررت الانفصال أو ارتضيته تحسب انك قائم بنفسك، ما لك لذاتك. لذلك كان الآثم ملحداً وضح عنده هذا أم لم يتضح. الخطيئة أقسى كثيرا مما نتصوّر. لا تأتي عرضاً. هي فعل كينوني في غاية العمق والاجتراء.
الخطيئة قاسية لأن الله يتقبل بالخطيئة صفعة من الانسان اذ يقول هذا لربه بتركيب لفظي أو غير تركيب أنا الله. كانت العلاقة بينهما قبل سقطة آدم علاقة اشتياق. والله أمين لشوقه. أما الإنسان فانقطع عنده الاشتياق اذ «دخلت الخطيئة الى العالم وبالخطيئة الموت» و «خوفا من الموت بتنا جميعا كل حياتنا تحت العبودية» أي اننا نخطئ خشية الموت ظناً ان ما يحرّك فينا الإثم حياة لا بعدها حياة وكلما تعددت وتنوّعت وجوه الإغراء ننأى عن وجه الله فيمحى أو يكاد.
كل إثم غرور لأنه شبع الاستكبار. في كل أحواله قتل للأنا المحبة أو تجريح للآخر. الذنوب اذا خرجت تصل الى كل آفاق الكون فيهتز بامتدادها حتى التصدّع. «العالم كله تحت الشرير». والصلاة التي علّمنا اياها يسوع تقول: «نجّنا من الشرير» وكأن الرب يوحي انا في حاجة الى صلاة لا تنقطع حتى لا يسيطر علينا روح الشر ونبقى ملاصقين الرب لنعود الى الوجه الذي انفصلنا عنه بشهواتنا. المشكلة الوحيدة التي تواجهنا هي مشكلة الخطيئة. ليس المرض ولا الفقر ولا الاضطهاد شيئا تجاه وطأة ذنوبنا علينا.
ما يلفت في الإنسان الخاطئ تماسك الشهوات بحسب طبيعتها. فالحسد والغيرة والبغض والغضب انما هي أصول لذنوب متشابهة بحيث ان الواقع في ذنب من هذه الذنوب ينجر الى أخرى متلازمة. شهوة الشراهة ملتحمة بما هو قريب منها في الجسد بحيث ان من أخطأ الى جسده بتعبير ما يخطئ اليه بتعبير آخر. من هذا المنظار أمكن القول إن الخاطئ كتلة من الخطايا أو صار خطيئة.
كذلك الفضائل متماسكة فاللطف والوداعة والتواضع متلاحمة ويصعب الانفكاك عن الواحدة من دون الانفكاك عن الأخرى واذا قوى الانسان الروحاني حسنة واحدة فيه يقوي الأخرى تشدد القوى الروحية مجتمعة قد يأتي من شدة فضيلة واحدة.
هذا قد يقود الى مسؤوليتنا في تقوية الإرادة. في ما تقرأه عند الآباء النساك لا نرى تشديداً على ما يسمى الإرادة كما نرى ذلك في الإرشاد العصري. نرى كلاما على الجهاد الروحي أي تقديس الروح بالصلاة وقراءة الكلمة.
الإلهية والصيام اذ القضية عودة وجوهنا الى وجه الآب بعد ان تحولنا عنه. ما نفتش عنه هو تجديد الكيان البشري كله بالكيان الإلهي. فالصوم مثلا يوجّهنا الى التسامي عن الشراهة وتاليا عما يتعلّق بشهوة الجسد وعشقنا للمال المتصل بشهوات عديدة نبتعد عنه بالكرم ومحبة الفقراء.
هذه الفضائل تعود اليك اذا كشف الله وجهه اليك. وضم كيانك كله اليك وأنزل عليك جمالاته مجتمعة فتكون فيك مجتمعة أي يصير كيانك شبيها بكيان الله.
هنا تعترضنا فكرة الندم. التوبة أقوى من الندم أو من الحسرة اذ لا ينبغي ان نفكر كثيراً في ما مضى الحزن الشديد على الخطيئة اذا مضت والتركيز عليه كثيراً يعيدنا الى الخطيئة. اما التوبة الحقيقيّة فهي انطلاقة دائمة نحو وجه الله ونقاوته من جهة ونحو المستقبل الذي نطلب ان نتجدد فيه بالنعمة.
التوبة التي هي تجديد فكرنا وقيمنا تجعل لنا سلوكاً قويمًا يهبط علينا من علُ. سرها قول الرسول: «صلّوا بلا انقطاع» أي استردوا أفكاركم الى الله بتبني فكر المسيح وهذا يحصل باكتساب الكلمة واستنزالها وعودتها الى الرب بكلماتنا التي يضعها فينا بالروح القدس.
المبتغى ألا نصالح الخطيئة، أي خطيئة من أي فئة. ان نبقى يقظين لئلا يتسرب الينا ضعف. كل شيء ما عدا بهاء الله استعداد للضعفات اذا اخذنا هذا المجد نكون ذائقين لبر الملكوت منذ الآن وقائمين في الفرح.