القديسة بائيسة التائبة
ولدت القديسة بائيسة في منوف من عائلة مشهورة بالتقوى والثراء- في القرن الرابع- رباها والدها في خوف الله وكانت منذ صغرها محبة للفقراء والمساكين متعبدة ليل نهار تواظب على الصلاة والصوم: انتقل والدها إلى الرب وتركا لها ثروة كبيرة فجعلت في قلبها أن تضع كنزها في السماء حيث لا يفسده سوس ولا يسرقه سارقون. فكانت توزع صدقات كثيرة على الفقراء والمحتاجين وكانت تقوم بضيافة الغرباء وخدمتهم.
وذاع صيت فضائلها وبالأخص الصدقات الكثيرة والهبات المتنوعة التي كانت تهبها، في كل الأوساط حتى بين سكان برية شيهيت لان حياتها كانت المصباح الموضوع على المنارة والذي يضئ لكل الناس.
استمرت على ذلك زمانًا حتى صرفت كل مقتنياتها.. ويبدو أنها كانت ترغب في أن تتجه بعد ذلك إلى أحد ديارات أو بيوت العذارى وكانت كثيرة في ذلك الزمان، كقول السيد المسيح للشاب الغنى (الذي تقدم إليه قائلا: "أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟ أنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلًا فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي" (1). بينما كانت مبتهجة بالسلام الذي يفوق كل عقل، وبينما كان الهدوء والسكينة يخيمان على حياتها إذا بالشيطان عدو كل بر يرى محصول القمح الوافر خالصًا من كل شائبة، فأراد أن يلقى في وسطه الزوان ليفسده، ونصب الفخاخ لإسقاطها واستطاع بعض الغرباء عن المسيح -ذئاب خاطفة في ثياب حملان- ودخلاء ممتلئين من غش إبليس ومكره أن يستميلوا قلبها إلى الشر فزينوا لها طريق الغواية تحت ستار الترويح عن النفس وصرف السآمة والملل، ونتيجة للتراخي والتهاون تكاسلت في الصلوات وتلاوة التسابيح وانقطعت عن الصوم والسهر في العبادة، فأخذت الأفكار الشريرة تحاربها وفقدت السيطرة على ضبط النفس وكانت تتجاوب مع الأفكار الدنسة حتى سقطت في الهاوية.
انطلقا فجأة السراج الوهاج، خبا نور فضائلها وصارت تتخبط في الظلام، وعلى قدر ما كانت متقدمة في الفضائل أمعنت في ارتكاب القبائح، وأصبح قلبها الطاهر مسكنًا للتنانين.
وصل هذا النبأ المؤلم إلى شيوخ برية شيهيت القديسين فحزنوا حزنًا عظيمًا وأقاموا الصلوات من أجلها وانتدبوا أقدم الرهبان القمص يحنس القصير لمقابلتها ومساعدتها على خلاص نفسها وإنقاذها.
أطاع القديس -وهو المثل الأعلى في الطاعة كما سيأتي في سيرته- وانطلق حيث تقيم.
ومنذ أن علم القديس بخبر سقوطها لم يهدأ له بال وكان يصلى طالبًا إلى السيد المسيح أن يمده بمعونة من عنده حتى تخلص هذه النفس، ولما سار إليها كان يتلو صلوات المزامير ويستغيث بمراحم الرب.
وما زال في طريق حتى وصل إلى سكنها وطرق على الباب وقال للبوابة اعلمي سيدتك بقدومي ثم دخل إليها وهو يرتل: إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. نظر إليها وقال: لماذا استهنت بالسيد المسيح بهذا المقدار وأتيت هذا الأمر الرديء؟ فارتعدت وذاب قلبها من تأثير كلام القديس، أما هو فأحنى رأسه إلى الأرض وبكى بكاء مرًا، فقالت له "ما الذي أبكاك؟" أجابها قائلا: "لأني أعاين الشياطين تلهو على وجهك فلهذا أنا أبكي عليك "قالت له: "هلي لي توبة" أجابها: نعم، ولكن ليس في هذا المكان" فقالت له: "خذني إلى حيث تشاء" فانصرف من عندها ولحقت به مسرعة حيث دخل الاثنان البرية، ولما أمس الوقت قال لها: "أرقدي هنا ورقد هو بعيدًا وقام ليصلى صلاة نصف الليل فشاهد عمودًا من نور نازلا من السماء متصلا بالأرض وملائكة الله حاملين نفسها، فاقترب منها فوجدها قد ماتت. فألقى ذاته على الأرض وصل إلى الله صلاة طويلة بسببها فسمع صوتًا قائلًا:إن توبتها قد قبلت في الساعة التي تابت فيها أكثر من الذين تابوا سنين كثيرة ولم يظهروا حرارة في توبتهم مثل هذه القديسة.
وبعد ما دفنت مضى وأعلم الشيوخ بما جرى فمجدوا الله وعظموا اسمه القدوس، وتعيد لها الكنيسة في يوم 2 مسرى.