3. المَعالِم الرَّئيسيَّة للهُدوئيَّة
• الهدوئيَّة النُّسكيَّة :
ينقسم الجهد الرُّوحي لرُهبان الصحراء المصريَّة منذ القرن الرَّابع بين الصلاة الداخليَّة (القلبيَّة) والنُّسك سعياً للتناغم بين الاثنين. إلاّ أنَّ انحراف مُهَدِّد سيحمِّل الهدوئيَّة مسبقاً شكُّ اللاهوتيين : بعض الرُّهبان الذين ندعوهم بـ أوشيت euchites، المصلُّون، الذين لا يطالبون بشيء آخر سوى الصلاة. أوصى الآباء بشدَّة ضدَّ هذه البدعة على العمل اليدوي الذي يرافق الصلاة وكلُّ ذلك للسماح بمساعدة الفقراء فضلاً عن نفسه.
إنَّ التجربة الرُّوحيَّة لآباء الصحراء مدوِّنة في نهاية القرن الرابع، يعرض واحد منهم وهو أوغريس البنطي بأسلوب تركيبيّ سياق الهدوئيّ : يجب أن يمر هذا بخطوات النُّسك الجسديّة – الصِّيام، السَّهر – ومن ثمَّ إلى نسك الأفكار – محاربة الكبرياء، الغضب، الحسد – لبلوغ الصلاة النقيّة «علاقة عميقة مع الله» (في الصلاة، c. 3)، التي يجب أن تكون بدون صورة ولا خيال.
أصبحت هرطقة المصلين (الأوشيت)، في القرن الخامس، خطرة : ينتشر كلُّ تيارٍ طائفيّ تابع للمصلّين ميساليان messaliens – وهي الترجمة السريانية من اليونانيّة لكلمة أوشيت euchites – في الأقاليم الشرقيّة للإمبراطوريّة. تستبعد عقيدتهم كل ما هو غير الصلاة أي الأسرار والحياة الكنسيَّة وتتألَّف من القول أنَّ المعموديَّة غير نافعة وأنَّه وحدها الصلاة المستمرَّة يمكن أن تطرد الشيطان الذي يقطن في كل إنسان منذ ولادته ؛ يسبِّب رحيل الشيطان خبرة محسوسة للرُّوح القدس، الضمان الوحيد للخلاص. ستُدان هذه البدعة من قبل مجمع أفسس في عام 431.
في الواقع، ليست بدعة المصلّين إلاّ هامش طائفي لحركة روحيّة أكثر أهميّة، تلك التي يمثِّلها مكاريوس المنتحل. تتأصَّل جذور هذه الحركة في سوريَّا وبلاد ما بين النهرين وقد تصدَّت لتجربة مذهب العقلانيَّة الروحيّة الصرفة التي كانت في بذور نظريات أوغريس البنطي ؛ يعطي ثانيةً سمعان-مكاريوس، إلى جانب الصلاة النقيّة بدون صور وخيالات لأوغريس البنطي، مكاناً للعواطف لتذوُّق الله في ملء القلب.
سوف يُقصي لزمن طويل خطر بدعة المصلِّين وإدانتها الجذريّة – التي تلقي الشَّك على كل اللّذين يتكلَّمون عن الصلاة المستمرَّة وإدراك الله – الصلاة الهدوئيَّة عن المراكز البيزنطيَّة الكبرى، وسوف تحتمي الحركة في هوامش الامبراطوريَّة الأقل خشية من صواعق أرثوذكسيَّة متغطرسة أيْ :
- في سيناء، مع يوحنَّا السلَّمي الذي يَصِفُ الصلاة الهدوئيَّة - « يترقَّب الهرّ الفأر ؛ وتترقَّب روح الهدوئي عريسها الرُّوحي» (الدرجة 27، 8)– وثمارها المحسوسة - «عندما تأتي النار لتسكن في القلب فإنَّها تبعث الصلاة ؛ وعندما ستُبعَثُ الصلاة وستصعد إلى السماء ستُنزل بدورها ناراً في عليَّة العشاء السرِّي للنفس» (الدرجة 28، 48)؛
- في فلسطين، مع الرَّاهب بارسانوف وتلميذه دوروتيه من غزَّة الذين يصرُّون على عدم الاكتراث والثقة الكاملة بالله؛
- في سوريا، مع اسحق السوري وهو ناسك يصبح أسقفاً لنينوى ومن ثمَّ يعود ويصبح راهباً متوحِّداً وهو يُصرُّ على التحوُّل الذي تحدثه الصلاة الهدوئيَّة : «أنْ ينام المصلِّي أو أنْ يستيقظ فإنَّ الصلاة من الآن فصاعداً لن تغادر نفسه. أنْ يأكل، يشرب، ينام أو كل ما يفعله، وحتى في نومه العميق، فإنَّ عطر الصلاة يستيقظ بدون ألم في قلبه.» (أبحاث نسكيَّة، 85). يعطي هذا التحوُّل للمصلِّي نظرة جديدة حول الكائنات والأشياء، نظرة شفقة شاملة تتضمَّن حتَّى الأفاعي.
لكن منذ القرن السابع، عندما أصبحت هذه الهوامش البيزنطيّة أراضٍ إسلاميَّة ، لن يُعبَّر عن الهدوئيَّة إلا بصوت خافت.