كفتون تخفي في كنيستها جدرانيات من القرون الوسطى
جدرانيات لا يعرف لبنان مثيلاً لها، أو ما يضاهي جمالها وإتقان فنّها. كتابات باللغة العربية تظهر للمرة الأولى في كنيسة يعود تاريخ بنائها إلى القرون الوسطى... إكتشافات متتالية جرت خلال شهر تموز لأعضاء البعثة البولندية العاملة في كنيسة مار سركيس وباخوس التابعة لدير سيدة كفتون في الكورة هي كنيسة صغيرة مبنية على ضفاف مجرى الماء في وادي كفتون، تُعرف بإسم «كنيسة القديسين مار سركيس وباخوس». دار عبادة هذه،
بقيت مهملة لقرون، فكانت مهددة باﻹنهيار ومنسيّة، تأكلها الرطوبة ويسكنها صمت القبور. بقيت حال الكنيسة على هذا الشكل إلى أن قررت إدارة الدير ترميمها والمحافظة عليها. فكشفت حينها الكنيسة عن أسرارها الدفينة منذ أكثر من 700 سنة: جدرانيات رائعة الجمال لا يعرف لبنان لها مثيلاً. فالحنية التي ترتفع عدة أمتار قد زُينت برسم يصور «شفاعة المسيح» يوم الحساب بحسب الإنجيل. وجه السيد المسيح يتميز بجمال قسمات الوجه ودقة التنفيذ التي تظهر مرتبته الدينية العليا.
أما والدته التي تقف إلى يمينه طالبة منه الرأفة بالبشر فهي تنحني باتجاهه بتواضع، تماماً كما يفعل مار يوحنا المعمدان الذي يقف على شماله. الدكتور كريستوف شيميلفسكي مدير البعثة البولونية من معهد الترميم والمحافظة على الفنون الجميلة في جامعة وارسو التي تعمل على تنظيف وتثبيت الجدرانيات المكتشفة في كنيسة مار سركيس وباخوس، يقول «إن التقنية المستعملة في رسم الوجوه هي بيزنطية بإمتياز.
فقد طُليت اللياسة التي تغطي الحائط باللون الأخضر لتعطي الوجوه عمقاً وجمالاً وهيبة لا مثيل لها». تقنية الرسم هذه اتبعت في الجدرانيات التي تغطي الجزء العلوي من الكنيسة
ـــ والتي لم تحافظ أي كنيسة أخرى في لبنان عليها ـــ فهناك رسم لملاك، وآخر للرسل. وما يميز هذه الرسوم، بالإضافة إلى تقنية الفن المتبعة، هي الكتابات التي تعرّف بالأشخاص. فهناك كتابات باللغة السريانية القديمة، وأخرى باليونانية، أما اللغة الثالثة المستعملة فهي العربية.
وتلك هي أول كتابة عربية يعثر عليها في كنيسة تعود إلى القرون الوسطى في لبنان. ثمة رمزية استعمال اللغة العربية في صرح ديني مسيحي عائد إلى تلك الفترة، وخاصة أن الاعتقاد السائد بأن اللغة السريانية هي التي كانت مستعملة، في حين أن العربية كانت فقط لغة الدولة، ويقول شيميلفسكي
«إن هذا الاكتشاف يتطلب دراسات تاريخية جديدة ومعمقة ويفتح باباً واسعاً للأبحاث». من مميزات هذه الكنيسة أيضاً رسوم أربعة قديسين من الخيّالة صوّروا على الأعمدة من دون خيولهم كما هي العادة.
وقد بدأت الدكتورة ندى حلو المتخصصة بالأيقونات والرسوم البيزنطية والأستاذة في الجامعة اللبنانية بإتمام دراسة تفصيلية لهذه الجدرانيات تُنشر نتائجها في المجلات العلمية. وقد قدمت حلو نظرية أولى تشرح فيها ميزة جدرانيات مار سركيس وباخوس بالنسبة لباقي الكنائس اللبنانية.
فهي تعتبر أن «بعضاً من تلك الرسوم قد أتمّها من عايش الفن البيزنطي في القسطنطينية، في حين أن الأخرى هي من عمل رسام محلي متأثر جداً بفن أستاذه، لكنه لا يملك تقنياته». وهي تثبت هذه النظرية بدراستها المقاربة لتفاصيل الوجوه وطريقة الرسم بين هذه الرسوم وأخرى في لبنان وفي باقي مدن الأمبراطورية. وتحاول حلو أن تشرح وجود ذلك الرسام تاريخياً في قرية صغيرة ككفتون، رابطة تأريخ الجدرانيات
«بأحداث القسطنطينية التي نهبها الصليبيون عام 1253، ما أدى إلى نزوح سكانها وفنانيها إلى كل أرجاء الأمبراطورية. وقد يكون أحدهم وصل إلى شمال لبنان وخلّف وراءه هذه الروائع الفنية». الاكتشاف المفاجأة شكّل اكتشاف الجدرانيات مفاجأة لكل القيّمين على الدير. وتقول الأم أنطونيا،
رئيسة دير سيدة كفتون، إنه لطالما كانت حال كنيسة مار سركيس وباخوس المزرية شغلها الشاغل. فهي كانت تخشى أن ينهار المبنى الواقع على مجرى ماء من جراء تصدع الجدران الرطبة على مدار السنة، وكانت تلمح في الجدران ألواناً مختلفة. فكانت تتوقع أن يكون هناك جدرانيات، لكن ليس بالشكل الذي اكتشف. مخاوفها على مصير الكنيسة كان الحافز الأول لبدء ورشة ترميم المبنى وتدعيمه. فقد بدأ العمل في صيف 2002،
وما هي إلا أيام معدودة حتى دوّى صراخ المهندس المسؤول في كل أرجاء الدير: «أيقونة، أيقونة». وبالفعل، ظهر تحت معول العمال الذين يزيلون الأتربة عن السطح رسم لوجه مريم العذراء. فبدأت الإتصالات مع الأبرشية التي تتبع لها الكنيسة، وتم الطلب من الدكتورة ليلى بدر، مديرة متحف الجامعة الأميركية بالتوجه إلى الموقع لإعطاء رأيها بالإكتشاف. فأتى التقويم الأولي ليظهر أنها جدرانيات من القرون الوسطى. تلك الجدرانيات في حاجة إلى أهل إختصاص، هؤلاء يعرفون كيف تُنظف وتتم المحافظة عليها، فقد إتصلت بدر بالبعثة البولونية المنقّبة في موقع شحيم الأثري حيث يعمل فريق مختص بالترميم من جامعة وارسو على ترميم فسيفساء بيزنطية، ويعمل في إطار هذه البعثة متخصصون في الترميم من جامعة وارسو.
وكان ذلك بداية الطريق للفريق البولوني في ترميم وتدعيم وتنظيف جدرانيات الكنيسة. ويقول الدكتور شيميلفسكي «إن البعثة كانت تعمل طوال هذه المدة على محورين أساسيين: الأول تنظيف الرسوم من الملوح التي كانت تكسوها وتسبب تآكل طبقات الألوان، والثاني تثبيت الجدرانيات بعد أن كانت الرطوبة قد سبّبت نزع القشرة الكلسية التي طليت عليها الرسوم». ويؤكد شيميلفسكي بأن العمل في كنيسة مار سركيس ينتهي العام المقبل،
أي حين تضع البعثة اللمسات التثبيتية النهائية على الجدرانيات. ولكن لكي يُكلل هذا العمل بنجاح تام، يجب أن يحول مجرى المياه عن أساسات الكنيسة التي تمتص حجارتها الرملية الرطوبة. ويؤكد شيميلفسكي والأم أنطونيا «أنه بعد ترميم الجدرانيات وتدعيم الكنيسة، فستسعمل من جديد كمركز ديني يستقبل المؤمنين. وذلك لكي لا تصبح الكنيسة متحفاً ميتاً يستقبل فقط المهتمين بموضوع الرسوم البيزنطية،
بل تعود إلى دورها الأول وهو: دار عبادة مزيّنة جدرانها بروائع تعود إلى العصور الغابرة. يتوزع بين جرد البترون وجبيل ومحافظتي الكورة وبشري عدد من الكنائس التي حافظت على جزء من جدرانيات القرون الوسطى التي كانت في ما مضى تزيّنها. وقد أثار هذا الفن البيزنطي المحلي فضول عدد من أهل اﻹختصاص اللبنانيين والأوروبيين.
فهم يحاولون تحديد هوية الرسامين: هل هم محليون يرسمون بحسب الطقس البيزنطي من دون أن يمتلكوا تقنيات عالية في الرسم، أم أنهم رسامون أتوا من كبرى مدن الأمبراطورية ليزينوا جدران كنائس جبل لبنان؟ «جدل بيزنطي» لا يزال التباحث فيه جارياً، وخاصة بعد اكتشاف جدرانيات كفتون التي تتميز بتقنياتها العالية وفنها الرائع....+++