عظة المطران منير خيرالله راعي أبرشيّة البترون المارونيّة السامي الاحترام
في إحتفال عيد مار مارون- في الرعيّة المارونيّة في الكويت
الجمعة 7 شباط 2014
ما رأيك يا مار مارون لوعدتَ اليوم بعد ألف وستماية سنة لتفتقد ابناءك وشعبك وكنيستك؟ هل تقف وتتأمّل ما آلت إليه شؤونهم وقد عانوا ما عانوا من الحروب والتهجير والهجرة وهم منتشرون اليوم في أربعة أقطار العالم؟ أم أنك تفهم وضعهم وتشجّعهم ليقلعوا عن يأسهم فتدعوهم للعودة إلى أصالة رسالتهم الأنطاكيّة التي تقوم على الإنفتاح والوساطة والتحرّر، وللنهوض بدورهم الرائد ثقافيّاً وإجتماعيًّا وسياسيّاً ؟
كلّ ما نعرف عن مارون أنّه عاش في كنيسة أنطاكية من سنة 350 حتى سنة 410 مسيحيّة وأنّه كان ناسكاً وكاهناً. ترك كلّ شيء في هذه الدنيا ونذر نفسه للسيّد المسيح. فتسلّق قمّة جبل في منطقة قورش حيث يوجد هيكل للوثنيّين وحوّله معبداً لله. عاش في العراء وراح يقضي أوقاته بالصلاة والصوم والتقشّف والوقوف المستمرّ، ويجهد في الأعمال اليدويّة في الأرض التي عاش عليها. أعطاه الله موهبة شفاء الأمراض الجسديّة والنفسيّة. فتقاطر إليه الناس وتتلمذ الكثيرون على يده. وراح تلاميذه يضاهونه في عيش الروحانيّة النسكيّة التي وضعها، والتي تتميّز: بالعيش في العراء وعلى قمم الجبال، وبالوقوف المستمرّ، وبالصلاة المتواصلة والسهر والصمت العميق، وبالتقشّف وقهر الذات، وبالعمل في الأرض واستثمارها والعيش منها.
ثم راحوا يهجرون منطقة قورش وأنطاكية، منذ سنة 410، قاصدين جبال لبنان من أجل حمل الرسالة المسيحيّة وتبشير الوثنيّين ودعوتهم إلى الإيمان بالله وتحويل معابدهم إلى كنائس وأديار. وعمدوا إلى بناء الأديرة وجعلها منارة لنشر الحياة المسيحيّة والثقافة والعِلم.
وبعد أن تجمّع أبناء مارون وتنظموا في جبال لبنان، أسّسوا كنيسة بطريركيّة مع يوحنا مارون وحافظوا على روحانيتهم النسكيّة وعلى ثقافتهم وانفتاحهم على الشرق والغرب وعلى حريتهم واستقلاليتهم ضمن الامبراطورية العربيّة والإسلاميّة.
فعاشوا في العراء على قمم الجبال، أو في قعر الوديان، وتحمّلوا أشقّ العذابات في سبيل الحفاظ على حرّيتهم. عاشوا دائماً واقفين ومستعدّين لملاقاة ربّهم بالصلاة والصوم والتقشّف والسهر. وكلما كانت تشتدّ عليهم المحن، كانوا يتوَكّأون على عِصيّهم الخشبيّة كي لا يرضخوا فيرتخوا فيُستعبدوا ! وعملوا في الأرض وحوّلوها إلى جنّات وتمسّكوا بها وأحبّوها لأنّهم تعبوا عليها وسقَوها من عرق جبينهم.
عملوا مع إخوتهم المسيحيّين والمسلمين والدروز على تأسيس الكيان اللبنانيّ والذاتيّة اللبنانيّة منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر في عهد الإمارتَين المعنيّة والشهابيّة، وكانوا روّاد النهضة العربيّة. وراحت هذه الذاتيّة تتبلور فكريّاً وثقافيًّا وإجتماعيًّا وسياسيًّا في بداية القرن العشرين، إلى أن حصل اللبنانيّون على إعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920 مع البطريرك الكبير الياس الحويّك، دولةً تحترم تعدّدية الطوائف والمذاهب وتحافظ على حريّة أبنائها وحقّهم في الحياة الكريمة.
وتابعوا مسيرتهم في رفع التحدّي الكبير إلى أن حصلوا سنة 1943 على استقلال دولة لبنان « دولة مستقّلة ذات وحدة لا تتجزّأ وسيادة تامّة»، كما كانت تنصّ المادّة الأولى من الدستور.
ولم يكتفوا بوضع الدستور، بل عملوا معاً، مسيحيّين ومسلمين، وراء رئيس الجمهوريّة بشاره الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح على وضع المثياق الوطني الذي كرّس لبنان وطناً سيّداً حرّاً مستقلاً، والذي يستند إلى خمس نقاط:
1- استقلال تامّ وناجز تجاه كل دول الشرق والغرب.
2- لا وصاية ولا حماية ولا امتياز ولا مركز ممتاز لأيّ دولة كانت.
3- التعاون إلى أقصى الحدود مع الدول العربيّة الشقيقة.
4- لا وحدة ولا اتّحاد مع أيّة دولة كانت.
5- الصداقة مع كل الدول التي تعترف باستقلالنا الكامل وتحترمه.
في حصيلة هذه المسيرة الطويلة، توصّل الموارنة إلى تحقيق إنجازات كبيرة، يختصرها العلاّمة الأب يواكيم مبارك بخمسة:
- الإنجاز الأول: هو نشوء كنيسة ونموّها وازدهارها حول رأسها البطريرك، ضمن نطاق الدولة الإسلاميّة، في حين أن كنائس أخرى، القديمة منها والكبرى، كانت تتقلّص في ديار الإسلام، أو تخضع له طوعاً أو كرهاً، أو تناصبه العداء دون نتيجة حاسمة إلاّ على حسابها.
- الإنجاز الثاني: هو إستقلاليّة هذه الكنيسة تدريجيّاً ضمن الدولة الإسلاميّة، وتكريس هذه الإستقلاليّة، في النهاية، ضمن استقلال الدولة عن الإسلام ولكن ليس عن المسلمين. وهو إنجاز تاريخيّ لا مثيل له.
- الإنجاز الثالث، الموازي للإنجاز الوطنيّ: هو تكوين المجتمع اللبنانيّ بوصفه مجتمعاً مدنيّاً متعدّد الفئات الدينيّة، يخدمها ولكنّه لا يخضع لأحكامها إلاّ في حقول معيّنة.
- الإنجاز الرابع: هو أن الموارنة لم يمارسوا الرسالة بوصفها التبشيريّ الحديث، ولكنّهم حقّقوا إنجازاً في تاريخ العلاقات المسيحية الإسلامية.
- الإنجاز الخامس: هو الإنجاز الثقافيّ. فالموارنة هم في العصور الحديثة ورثة الاستعراب الثقافي على رفضٍ قاطع للاندماج والضياع في العروبة السياسية. وهذا ما نعتبره مثالياً في مصير الثقافة العالمي. ونذكّر أن العمل الاستعرابيّ الأوّل في لقاء النصرانيّة والإسلام يشمل الأعمال الكبرى التي تمثّل رقيّ العرب ووصولهم إلى المستوى العالميّ للثقافة بوساطة النصارى الذين نقلوا أعمال الإغريق، العلميّة منها والفلسفيّة، إلى السريانيّة ومنها إلى العربيّة.
وإذا استطاع الموارنة تحقيق هذه الإنجازات، فيعود الفضل بذلك إلى أحد بطاركتهم العظام، إسطفان الدويهي، المؤرّخ والمفكّر والمصلح، الذي دوّن تاريخ كنيسته المارونيّة في تزامنه مع التاريخ الإسلاميّ بحيث أن التاريخَين أصبحا عنده تاريخاً واحداً.
أمّا اليوم، وفيما أبناء مارون يعيّدون لأبيهم الروحيّ وهم منتشرون في العالم كلّه، وأنتم منهم يا أحبّاءَنا في الكويت، وفيما إخوتهم المسيحيّون العرب يعانون من هجرة قاسية «تُعرِّضُ العالم العربيّ لنزيفٍ بشريّ وإجتماعيّ وثقافيّ وسياسيّ وإقتصاديّ على جانب كبير من الخطورة»، كما تنبّه الأمير طلال بن عبد العزيز آل سعود منذ اثنتي عشرة سنة بالتمام في كلمة كتبها في جريدة النهار اللبنانيّة في 29/1/2002، نتساءل إلى أين المصير؟
يقول الأمير طلال في كلمته الشهيرة:
«شكّل العرب المسيحيّون إحدى ركائز البناء العربيّ القديم والحديث على السواء. ففي فجر الإسلام كانوا ركناً ثقافيّاً وسياسيّاً وعسكريّاً من الدولة العربيّة التي توسّعت شرقاً وغرباً... وفي عصر النهضة لم يغب العرب المسيحيّون عن دورهم في إعادة إحياء معالم العروبة ومضمونها الحضاريّ الجامع والمنفتح على الحضارات الأخرى الناهضة في مراحل التراجع العربيّ؛ وشكّلوا حلقة وصل واتصال وعمقاً ثقافيّاً أصيلاً في العروبة ومتقدِّماً في العصرنة والحداثة. بقاؤهم في العالم العربيّ يمنع قيام بيئة تفترش التعصّب والتطرّف، وبالتالي العنفَ المؤدّي إلى كوارث تاريخيّة».
الكوارث التاريخيّة تحصل اليوم في بلداننا العربيّة والشرق أوسطيّة: في سوريا ولبنان والعراق ومصر وفلسطين. فهل نبقى متفرّجين؟ ما هو دورنا إذًا؟ إنطلاقًا من روحانيّتنا النّسكيّة ومن ثوابت تاريخنا:
علينا أوّلاً أن نعود إلى عبادة الله بإيمان وثقة، وإلى الإصغاء إلى كلمته وسماع صوته يدعونا إلى فعل توبة صادق، فنتغلّب على الخوف والقلق اللذَين يسكنان فينا، وننطلق بحرّيّة وجرأة ورجاء في رسالة أمميّة متجدِّدة.
علينا ثانيًا أن نتبنّى موقف الحقّ الذي لا يساوم ولا يراوغ؛ فنكون أنبياء لا جبناء، نرفع الصوت عاليًا في وجه فاعلي الشرّ، للدفاع عن حقّ كلّ إنسان في عيشٍ كريم، وعن الشعوب في تقرير مصيرها.
علينا ثالثًا أن نتمسّك بأرضنا المقدّسة. إنّها الأرض التي اختارها ابن الله ربّنا وسيّدنا يسوع المسيح، ليدخل من خلالها في التاريخ والجغرافيا، فيولد فيها إنسانًا ويعيش عليها ويموت عليها مصلوبًا، فداءً عن جميع البشر وحبًّا بهم.
علينا أخيرًا أن نبقى حلقةَ وصلٍ واتّصال، وقيمةً ثقافيّة وحضاريّة لشعوبنا ولبلداننا؛ فنعمل مع إخوتنا المسلمين، كما عملنا طيلة مئات السنوات، على إعادة بناء لبنان في دعوته التاريخيّة، أي الوطن الرسالة في الحرّيّة والعيش الواحد المشترك، في احترام تعدّديّة الطوائف والأديان والحضارات والثقافات، وأن نعمِّم هذه الخبرة على مجتمعاتنا التي تسعى إلى ربيع لها في الحرّيّة والديمقراطيّة.
إننا نجدّد اليوم، كأبناء مارون وككنيسة مارونيّة وعلى رأسها البطريرك مار بشاره بطرس الراعي، انتماءنا إلى كنيستنا الأنطاكيّة وإلى محيطنا الطبيعيّ في العالمَين العربيّ والإسلاميّ، ونجدّد ولاءَنا لأوطانِنا ونحن فيها مواطنون أصليّون،
ونؤكّد أننا ننشد الحريّة لنا ولغيرنا من الشعوب ضمن احترام التعدّدية الدينيّة والثقافيّة والحضاريّة التي تميّزنا، ونجدّد انفتاحنا على الغرب وثقافته واتّحادنا مع الكنيسة الرومانيّة الممثَّلة بالكرسيّ البطرسيّ وبالجالس عليه اليوم البابا فرنسيس.
نتضرّع إليك يا ألله ونرفع صلواتنا طالبين، بشفاعة مريم والدة الإله وجميع قدّيسينا، أن يكون عيدُ مار مارون انتصارًا للمحبّة والأخوّة والسلام في سوريا ولبنان والعراق ومصر وفلسطين، وكلِّ بلداننا العربيّة والشرق أوسطيّة. آمين.
[/size]
[/size]