يا مَن هو مثلي شاطرٌ تقدّم بثقةٍ وطمأنينة ......... لأن قد فُتح للجميع باب شفقةٍ إلهيّة
بحيث أن كثيرين قد عرفوا ذواتهم أنهم ارتكبوا أموراً كثيرة غير لائقة وعاشوا منذ حداثتهم بالتفريط
مهتمّين ومثابرين على السُكْر والبذخ وسقطوا في عمق رذائل ه...ذا مقدارها فآل بهم عملهم إلى اليأس
الذي يتولّد من التشامخ والعُجب ومن ثمّ لا يرغبون في الاهتمام بالفضيلة بل يوردون عُظْم رذائلهم
ويتصوّرون غزارتها فيسقطون دائماً بها وبالأكثر قبحاً منها. فلذلك تحرّك الآباءُ القديسون للشفقة
والتعطّف الأبوي نحو مثل هؤلاء وأرادوا أن يقطعوهم ويبعدوهم عن اليأس وقطع الرجاء فرتّبوا ههنا
هذا المثَل بعد الأول مقتلعين ومستأصلين ألم اليأس ومحرّكين مثل هؤلاء إلى عمل الفضيلة مظهرين بواسطة
الابن الشاطر للذين سقطوا كثيراً تحنّن الله وشفقتهُ الكلية الصلاح موضحين من مثَل المسيح هذا أنهُ
لا توجدَ خطيئة ولا أثم تَغْلُبُ حكمة الله العطوفة.
فاثنان هما أبناء الإنسان أعني به الكلمة الإله والإنسان الصدّيقون والخطأة.
أمّا الابن الأكبر فهو العامل بوصاياه دائماً والمثابر على صلاح الله والغير المنفصل عنهُ البتّة.
وأمّا الابن الأصغر فهو الذي اشتاق إلى الخطيئة تائقاً ورفض العيشة مع الله بأعماله القبيحة
واصرف تعطّف الله وشفقته لنحوه وتصرّف ببذخٍ بما أنهُ ما حفظ الصورة والتمثال سالماً وتعبّد لمشيئاته
باللذات ولم يستطع أن يشبع ويملأ شهوتهُ. لأن الخطيئة هي أمرٌ لا شبع له تشغف
وتسحر الإنسان بالعادة بواسطة الملذات الوقتيّة التي يشبهّها بالخرنوب كمأكل الخنازير
لأن الخرنوب امّا في الابتداء فيظهر حلاوةً وعذوبةً ما ثم أخيراً يؤول إلى قبوضةٍ كطعم التبن،
الأشياء التي قد امتلكتْها جميعها الخطيئة أيضاً. فحالما استفاق الابن الشاطر المفرّط بما أنه كان يتضوّر من جوع
الفضيلة وافى إلى أبيه قائلاً يا أبتاه أخطأت في السماء وقدّامك ولستُ أهلاً أن أُدعى لك ابناً. فاقتبَلهُ الأبُ العطوف
مذ تاب ولم يعيِّره عمّا فعله ثالباً بل ضمّهُ إليه محتضناً مورياً عطف جوانحهُ الأبويّة الإلهية وسربلهُ حلّةً أعني المعمودية المقدّسة
ومنحهُ ختماً وعربوناً أعني نعمة الروح الكلّي قدسهُ وأعطاهُ أيضاً حذاءً لرجلّيْهِ لكي لا تلذعهُ الحيّات
والعقارب في خطواتِه حسب مشيئَة الله بل ليستطيع أن يسحق رؤوسها. ثم لإفراط فرحه ذبح له الآب العجل المسمّن
الذي هو الابن الوحيد ومنحهُ أن يتناول جسدهُ ودمهُ. فمع هذا تعجّب الابن الأكبر
من تحنّن أبيه الذي يفوق كل حدٍّ وقال ما قاله. فسكّتهُ العطوف الوادّ للبشر وردّهُ بهدوٍ بواسطة أقوالٍ
أنيسةٍ ووديعة قائلاً لهُ أنت معي كل حين وكان يجب عليك أن تفرح وتسرّ مع أبيك لأن ابني هذا كان ميّتاً
بالخطيئة قبلاً فعاش لما تاب عمّا صنعه بجهلٍ وغباوة وضالاً بما أنهُ كان بعيداً مني بعوائد اللذات
فوُجد بواسطتي لما توجّعتُ له بجوانحي وإشفاقي ودعَيْتهُ بالعزم الشفوق.
فلهذا السبب رتّب الآباءُ القديسون هذا المثَل ههنا ليقتلعوا كما تقدم اليأس والجزع لمباشرة الأعمال الصالحة
ويحثّوا مَن كان كالابن الشاطر خاطئاً إلى التوبة والندامة التي هي سلاحٌ عظيمٌ لدحض نبل المعاند وملجأ منيعٌ عزيز.
فبمحبتك للبشر المحتجز وصفها أيها المسيح إلهنا ارحمنا. آمين.