02.26.2014
أبينا الجليل في القديسين بورفيريوس أسقف غزة (+430م)
26 شباط شرقي (10 آذار غربي)
كتب سيرته تلميذه مرقص الشماس. ومن سيرته الأصلية استمددنا معلوماتنا ههنا. أصل القدّيس بورفيريوس من مدينة تسالونيكية لعائلة من النبلاء. لما بلغ الخامسة والعشرين من عمره اجتاحت نفسه رغبة إلهية في ترك موطنه والعزّ الذي كانت ترتع فيه عائلته ليقتبل الحياة التوحّدية. توجّه إلى مصر وجاء إلى الإسقيط، موطن الرهبان والنسّاك هناك. وبعد أيام معدودة حُسب أهلاً للثوب الرهباني. أقام، بين الآباء القدّيسين، خمس سنوات رغب بعدها في زيارة الأماكن المقدّسة في فلسطين. وإذ حقّق ما رغب فيه بنعمة الله تحوّل إلى نواحي الأردن حيث اتخذ مغارة أقام فيها ناسكاً. بقي هناك خمس سنوات أخرى جاهد خلالها جهاداً بطولياً في ساحة الحرب اللامنظورة. لكنه بسبب الجفاف الشديد في تلك الناحية مرض وأشرف على الموت. وبتدبير من الله انتقل بمساعدة بعض معارفه إلى أورشليم.
المرض الذي أصاب قدّيس الله، بورفيريوس، كان تصلّب الكبد. وقد عانى من ارتفاع حرارة البدن بصورة متواترة. ومع أن المرض شمله ووخز أحشاءه دونما هوادة وأخذ يُذيب جسده، فإنه لم يتوان يوماً عن التطواف على الأماكن المقدّسة تبرّكاً. وقد أحنت العلّة هامته و أوهنته فصار يتكئ على عصا. في ذلك الوقت تعرّف إليه تلميذه مرقص الذي كان خبيراً في فن النسخ والكتابة. وقد أُخذ بقوة نفس بورفيريوس بعدما لاحظ حالة الوهن التي كان عليها وإصراره، بصورة متواترة، على التجوال في الأماكن المقدّسة. وذات يوم رآه يهمّ بصعود سلّم مبنى الشهادة الذي تأسّس في زمن قسطنطين الملك، ولكن قواه، كما بدا، خانته، فأسرع مرقص الخطى ومدّ لبورفيريوس يد المعونة فأبى الاتكاء عليها قائلاً: "ليس مناسباً لي أنا الذي أجول سائلاً غفران خطاياي أن أستند إلى يد إنسان، عسى الله ينظر إلى تعبي، أيها الأخ، ويُشفق عليّ برأفته التي لا يُنطق بها!" على هذا النحو انصرف بورفيريوس في سبيله ليسمع الأقوال الإلهية ويشترك في المائدة السرّية ثم يقفل عائداً إلى مقرّه. كان واضحاً أنه احتقر مرضه ولم يُنؤ تحت وطأته بل سلك بإزائه وكان مرضه يصيب جسد إنسان آخر. رجاؤه بالله خفّف ثقل حمله عليه.
وتوطّدت علاقة مرقص ببورفيريوس فأوفده إلى ذويه في تسالونيكي لتصفية تركته وإعطاء ما يتوجّب لإخوته والعودة بالباقي إليه ليعمل على توزيعه على الفقراء وفقاً للوصية الإلهية. فلما تمّم مرقص رغبة معلّمه عاد محمّلاً بالخيرات إلى أورشليم. وإذ التقاه بالكاد تبينه لأنه بدا قوي البنية حسن المحيّا. فابتسم له رجل الله وقال له: لا تعجب، يا أخي مرقص، إذا ما رأيتني صحيحاً قوياً فأنا الآن أنعم بالصحة بفضل لطافة الرب يسوع الذي يجعل ما هو ميئوس منه قويماً. فمنذ أربعين يوماً، فيما كنت أقيم سهرانة يوم الرب، اعتورني، في كبدي، ألم لا يوصف. وإذ لم تعُد لدي طاقة على الاحتمال خرجتُ وارتميت قرب موضع الجمجمة، في الجلجثة. ومن عظم الألم غبت عن الوعي فرأيت السيّد مسمّراً على الصليب وأحد اللصّين على صليب آخر. وإذ شرعت في الصباح مردّداً كلمات اللص: اذكرني يا رب متى أتيت في ملكوتك (لو42:23)، أجاب السيّد موجِّهاً كلامه إلى اللص الصالح، ديسماس، وهو على الصليب: "انزل خلّص ذاك المطروح هناك كما خلًُصت أنت". فنزل اللص وأخذني بين ذراعيه وقبّلني، ثم مدّ إليّ يده وأقامني على رجلي وقال لي: تعال إلى المخلّص. للحال قمت وركضت إليه. فرأيته ينزل هو أيضاً عن الصليب ويقول لي: خذ هذا العود واحفظه. فأخذته ورفعته. في تلك اللحظة عدتُ إلى نفسي. ومن تلك الساعة زال ألمي.
مزايا القدّيس
وعرض مرقص لمزايا القدّيس كما عرفه. كان رجلاً لا عيب فيه، وديعاً جداً، شفوقاً، موهوباً في تفتيق معاني الكتاب المقدّس، قادراً على الإجابة عن أصعب المسائل فيه. لم يكن ينقصه العلم، بعامة، وله قابلية يُعتدّ بها على إسكات غير المؤمنين والهراطقة. وكان محباً للفقير، يكرم الشيوخ كآباء والشبّان كإخوة والصغار كأولاد له. لطيف المعشر، متّضعاً لا غش فيه ولا ادعاء. سويّ المزاج، خالياً من الهواء، لا يعرف الغضب. لا يذكر شرّ الآخرين في تعاطيهم معه ولا يدع الشمس تغرب على غيظه. بسيط القلب، ميّت الأهواء إلا غيظه على أعداء الإيمان.
وزّع ثروته واشتغل
بالنسبة للثروة التي عاد بها إليه مرقص، عمد بورفيريوس إلى توزيعها على المحتاجين، في المدن والقرى والأديرة. كما بعث بمال وافر للرهبان في مصر. أما الغرباء في نواحي أورشليم فأضحى لهم بمثابة إبراهيم جديد. كل أمواله وزّعها ولم يبق لنفسه شيئاً لكي يكون اتكاله على الله كاملاً. لذلك احتاج فخرج وعمل سكّافاً ولم يشأ أن يأكل خبزاً من غير تعب.
سيامته كاهناً وأسقفاً
وسمع عنه بريليوس، أسقف الأماكن المقدّسة، فأرسل في طلبه وسامه كاهناً وعهد إليه مسؤولية حفظ العود المحيي. إذ ذاك تحقّق، بالكامل، الحلم الذي رآه عن الرب يسوع وقوله له: خذ هذا العود واحفظه. كان بورفيريوس قد بلغ الخامسة والأربعين من العمر. وقد بقي على سابق نظام حياته لجهة التقشّف والسهر.
مضت على سيامته كاهناً ثلاث سنوات توفي في نهايتها إينياس، أسقف غزّة، المسيحيّون هناك كانوا قلّة معدودة. المدينة كانت في غالبيتها وثنية. وإذ لم يتّفق المسيحيون والكهنة في من يمكن أن يخلف أسقفهم الراحل جعلوا الأمر بين يدي رئيس الأساقفة في قيصرية، يوحنا. هذا أعلن صوماً ثلاثة أيام سأل خلالها الرب الإله في شأن الأسقف العتيد فجاءه إعلان أشار إلى بورفيريوس المغبوط رجلاً على قلبه. في ذلك الوقت بالذات رأى بورفيريوس حلماً عاين فيه الرب يسوع يقول له: ما كلّفتك به أردده لأني أشاء الآن أن أجمعك إلى امرأة مسكينة لكنها فاضلة فاتخذها وجمّلها لتنسى فقرها. كن غيوراً لها فُيعطى لك كل ما تحتاج إليه من حيث لا تدري.
خرج بورفيريوس ومرقص ومعهما خادم اسمه باروخاس إلى قيصرية بعد أن سلّم قدّيسنا مفاتيح عود الصليب إلى أسقف الأماكن المقدّسة. فلما وصلوا إلى هناك استقبلهم رئيس الأساقفة يوحنا وأحسن وفادتهم. و في اليوم التالي وصل جمع من مسيحي غزّة فألقوا الأيادي على بورفيريوس وجعلوه أسقفاً عليهم عنوة. رد فعل بورفيريوس كان أنه بكى بكاء شديداً مؤكداً أنه لا يستحق الأسقفية. وأخيراً رضخ.
في غزّة
وانطلق الغزّاويون عائدين إلى ديارهم برفقة أسقفهم الجديد. ومن حسد الشيطان حرّك ضدهم بعض الوثنين في القرى القريبة من المدينة فعمدوا إلى زرع الطريق بالأشواك والقاذورات الكريهة الرائحة ليحولوا دون وصول القادمين إلى المدينة. لذلك لم يصل بورفيريوس وصحبه إلى غزّة إلا بشق النفس.
ثم أنه ضرب غزّة والجوار الجفافُ وشاع في المدينة أن السبب هو قدوم بورفيريوس. الوثنيون قالوا أنهم سألوا زفس إلههم فقال لهم أن قدمي بورفيريوس مجلبة للفأل السيئ في المدينة. و بعدما رفعوا الطلبات إلى إلههم سبعة أيام لم يحصدوا إلا الريح فانصرفوا خائبين. و ضربت المجاعة المدينة فجاء المسيحيون، وعددهم مائتان وثمانون، و سألوا قدّيس الله الصلاة لأجل المجاعة والجفاف. فلما عرف في روحه إن إصبع الله فيما جرى تلا، والشعبُ من حوله، صلوات جمّة في أكثر من موضع حاملين رفات بعض الشهداء و المعترفين. وكانت هناك كنيسة قديمة خارج المدينة. فتوجّهوا إليها و صلّوا و لما أرادوا العودة ألفوا البوابة وقد أقفلها الوثنيون ولما يشاؤوا فتحها. في ذلك الوقت بالذات أعطى الله غيوماً وبرقاً و رعداً و أمطرت السماء مطراً غزيراً فتحرّك قلب بعض الوثنيين وفتحوا البوابة وشرعوا يعترفون بيسوع إلهاً أوحداً. فشكر بورفيريوس والمسيحيون الرب الإله و فرحوا فرحاً عظيماً، ثم دخلوا الكنيسة يتبعهم الوثنيون وعددهم مئة وسبعة وعشرون. هؤلاء ختمهم الأسقف بختم الصليب. وبعدما اشتركوا في سر الشكر عادوا كل إلى بيته. في ذلك الوقت اشتدّ سقوط المطر ثلاثة أيام احتفل بعدها المؤمنون بعيد الظهور الإلهي. وانضم إلى الكنيسة عدد إضافي من الوثنيين، مائة وخمسة عدداً.
إلا أن الوثنيين الباقين على وثنيتهم استمروا في تضييقهم على بورفيريوس و المسيحيين الذين عانوا الكثير، لكن الرب الإله كان معهم وكانت الصلوات ترتفع ليل نهار ليهدي الإله العليّ الضالين إلى سواء السبيل. و من جملة ما حدث أن باروخاس الخادم تعرّض لضربات الوثنيين حتى ظُنّ أنه مات، لكنه بصلاة رجل الله بورفيريوس استردّ عافيته و صار شماساً. كذلك تعرّض للأذّية العديدُ من المسيحيّين حتى أضحت الاضطرابات في المدينة واقعاً يومياً وأمست الحاجة إلى حلّ أمراً ملحّاً.
مرقص إلى القسطنطينية
وأرسل بورفيريوس مرقص إلى القسطنطينية مزوّداً برسالة إلى يوحنا، رئيس أساقفة القسطنطينية، ليعمل لدى القصر على إقفال هياكل الأوثان في غزّة بعدما تفاقمت الحالة فيها. وقد تكلّلت مهمته بالنجاح وأُوفد إلى غزّة موظف كبير ليعمل على تنفيذ قرار في الشأن المطلوب. ومع أن الموظف أقفل العديد من الهياكل إلا أنه أبقى على أهمها، هيكل زفس، بعدما تلقى من الوثنيين مبلغاً كبيراً من المال رشوة.
إيلياس
كذلك، حدث بتدبير من الله، في ذلك الزمان، إن امرأة وثنية من عائلة شريفة في المدينة حضرتها ساعة الوضع، وكانت حاملاً، فتعثرت ولادتها. وبعدما بذل الأطباء جهدهم لمساعدتها باءت محاولاتهم بالفشل. فاحتار ذووها وأتوا بالسحرة والعرّافين فلم يكن حظّهم بالنجاح أوفر. كانت إيلياس وجنينها في خطر الموت. وإذ اتفق أن مربية إيلياس كانت على الإيمان بالمسيح فإنها رفعت طلبات عديدة من أجلها إلى الرب الإله. وحدث أنها كانت، مرة، تصلّي وتبكي في الكنيسة فلاحظها بورفيريوس وسألها عن علّة بكائها. فنظرت إليه وارتمت عند قدميه متوسّلة إليه أن يصلّي إلى الرب يسوع من أجل إيلياس مخدومتها. فلما عرف القدّيس بخبر المرأة بكى هو أيضاً لأنه كان رؤوفاً جداً. ثم بعث بالمربية لتقول لذوي إيلياس أن هناك طبيباً عظيماً قادر على شفاء ابنتهم الوحيدة شرط أن يُقسموا بألا ينكروه وأن يحفظوا الأمانة له بعد أن يقضي لهم حاجتهم. فذهبت ونقلت كلام بورفيريوس بحذافيره فأقسموا بأن يفعلوا ما يطلبه منهم. فوجّهت، إذ ذاك، كلامها بصوت مرتفع إلى إيلياس قائلة: هذا ما يقوله بورفيريوس، الكاهن العظيم، الرب يسوع المسيح، ابن الله الحي، يشفيك. آمني به واحيي! للحال تحرّك الجنين في أحشائها وتمت ولادتها بسلام. فاندهش الجميع وهتفوا: عظيم هو إله المسيحيين! عظيم هو الكاهن بورفيريوس!
في اليوم التالي خرج ذوو إيلياس والعشيرة كلها إلى بورفيريوس وألقوا بأنفسهم عند قدميه سائلينه ختمهم في المسيح، ففعل و جعلهم موعوظين ثم أرسلهم بسلام طالباً منهم أن يداوموا على حضور الصلوات والتعليم في الكنيسة. وبعد زمن يسير عمّدهم مع المرأة ومولودها، الذي كان ذكراً، وأسموه بورفيريوس. عدد الذين انضموا إلى كنيسة المسيح، يومذاك، كان أربعة وستين.
بورفيريوس إلى القسطنطينية
واشتدّ هياج الوثنيين في غزّة لا سيما بسبب اهتداء العديدين منهم إلى المسيح. تضييقهم على المسيحيين كان في ازدياد وتماديهم في الممارسات الشائنة استفحل. كانوا يعاملون المسيحيين كالعبيد ولا يسمحون لأحد منهم أن يأخذ لنفسه وظيفة رسمية أو يفلح أرضه. الولاة كانوا وثنيين. وإذ لم تؤدّ زيارة مرقص الشمّاس إلى القسطنطينية الغرض منها، صلّى بورفيريوس إلى الرب الإله وقرّر، على الأثر، أن يذهب إلى عاصمة الإمبراطورية بنفسه. فتوجّه أولاً إلى قيصرية وعرض الأمر على يوحنا، رئيس الأساقفة، وسأله مرافقته. وبعد أخذ وردّ قرّر الأسقفان السفر سويّة رغم أن الشتاء كان على الأبواب. وبعدما استكملا وصحبهما الاستعدادات غادرا بحراً في الثالث والعشرين من شهر أيلول.
أول محطة كانت لهما في رودس. هناك سمعا بناسك قدّيس اسمه بروكوبيوس فقرّرا العبور به لأخذ بركته. وكان هذا الراهب منعَماً عليه بموهبة الرؤية. فلما قدما إليه استقبلهما وأكرمهما. وإذ أخبراه بما هما مسافران إلى القسطنطينية من أجله وأنهما سوف يطلبان من الإمبراطور دكّ هياكل الأوثان في غزّة صلّى لأجل نجاح مسعاهما ونصحهما بأن يضعا المسألة بين يدييوحنا الذهبي الفم رئيس أساقفة القسطنطينية . وأضاف أن يوحنا ليس في وضع يسمح له بنقل الكلمة مباشرة إلى القصر لأن الإمبراطورة افدوكسيا غاضبة عليه. لهذا السبب سوف يوعز إلى رئيس التشريفات لديها، وهو رجل يخاف الله، اسمه أمانيتوس، بإيصال الخبر إلى الإمبراطورة. ثم أردف قائلاً: وأنتما متى حضرتما لديها وأبدت رغبتها في مساعدتكما فقولا لها: نرجو في المسيح، ابن الله، إن غرت لنا، أن يرزقك طفلاً ذكراً. وهي متى سمعت ذلك منكما غارت بالأكثر وسعت لإنجاح مهمّتكما. وبعدما سمع الأسقفان من بروكوبيوس الناسك كلاماً من هذا النوع صدّقاه وأخذا بركته وانصرفا.
وبعد حوالي عشرين يوماً من مغادرتهما غزّة وصل الأسقفان إلى القسطنطينية فاتصلايوحنا الذهبي الفم الذي أحسن استقبالها واهتم بأمرهما. وإذ اطّلع على القصد الذي أتيا من أجله رتّب من خلال رئيس التشريفات، أمانيتوس، لدى الإمبراطورة أن يُنقل خبر الأسقفين إليها ويوصلا بها. فلما أتيا إليها أبدت استعدادها لأن تعرض الأمر على الإمبراطور. وبالفعل عرضته فتلكّأ قليلاً لأن غزّة من المدن التي تمدّ الدولة بأموال ضريبية يُعتدّ بها، فإذا ما قست السلطة على السكان في شأن هياكل الأوثان فإنهم سيتفرّقون ولسوف تصيب الدولة خسارةٌ ليست بقليلة من جراء ذلك. فعادت الإمبراطورة واستدعت الأسقفين ونقلت إليهما تحفّظ الإمبراطور، لكنها أبدت أنها لن تترك الموضوع حتى تتمّمه بإذن الله. إذ ذاك قال لها بورفيريوس ما سبق لبروكوبيوس الناسك أن لقنه إيّاه: إننا نرجو في المسيح، ابن الله، إن ساعدتنا في مسألتنا، أن يرزقك طفلاً ذكراً سوف يحيا ويحكم وسوف تفرحين به سنين عديدة. هذا الكلام حرّك أحشاء الإمبراطورة بالأكثر فسألت صلاة الأسقفين ووعدت بتحقيق رغبتهما، وأضافت إنها سوف تُنشئ كنيسة في وسط غزّة، بإذن الله. أفدوكسيا كانت في شهرها التاسع وساعة وضعها وشيكة.
وانتظر الأسقفان بضعة أيام كانا خلالها يذهبان إلى القدّيس يوحنا الذهبي الفم وينعمان بكلامه الإلهي الذي كان أحلى من العسل.
أخيراً وضعت أفدوكسيا مولوداً ذكراً أسموه ثيودوسيوس، على اسم جدّه، وقد حُسب إمبراطوراً من ساعة ولادته ولُفَّ بالأرجوان.
ثم أن الأسقفين رفعا عريضة بناء لإيعاز الإمبراطورة. هذه العريضة استقرّت بين يدي من حمل الإمبراطور الصغير في يوم عمادته، واعتُبر أن ثيودوسيوس الصغير وافق على ما ورد فيها بسبب حركة أبداها من نحوها. وكان ذلك على مرأى من الإمبراطور والإمبراطورة. فلما فاتحت أفدوكسيا الإمبراطور الوالد من جديد بأمر الأسقفين والعريضة التي رفعاها وافق عليها بعد لأي. العريضة تضّمنت طلباً بدك الأوثان وهياكلها وتوفير امتيازات مالية للكنيسة والمسيحيين في غزّة لأنهم كانوا فقراء. بعد ذلك عملت أفدوكسيا على إعداد المراسيم الملكية اللازمة وعيَّنتْ بمساعدة أمانيتوس رجلاً مسيحياً تقيّاً أهلاً لتنفيذ المهمة. وإذ تكلّلت مهمة الأسقفين بالنجاح استودعا الإمبراطور والإمبراطورة عناية العليّ وقفلا عائدين إلى ديارهما مزوّدين بأموال وهدايا قيّمة. ولم تنس أفدوكسيا أن تمدّ بورفيريوس بأموال خاصة لبناء الكنيسة التي وعدته بها في وسط غزّة. كانت عودة الأسقفين في نيسان من السنة التالية.
في طريق العودة
واشتهى الأسقفان، أثناء عودتهما، أن يمرّا، في رودس، ببروكوبيوس الناسك فاعترضهما صاحب السفينة ولم يشأ أن يلبي رغبتهما بحجّة أن الأهوية كانت مؤاتية للإبحار ولا يريد أن يتأخر. وبعدما تقدّمت السفينة يومين هبّت عليها عاصفة هوجاء وأضحت في خطر. وعبثاً ابتهل الجميع إلى الرب الإله. لم تشأ العاصفة أن تستكين. وفي غفوة، بعد ليل صاخب، عاين بورفيريوس بروكوبيوس الناسك يقول له: بشّر صاحب السفينة واختمه لأنه من أصحاب بدعة آريوس. أعدده ليلعن تعليم آريوس تستكين العاصفة حالاً. فلأنه آريوسي لم يشأ أن تأتيا لزيارتي في طريق عودتكما. علّمه فيقتبل منك الإيمان الصحيح. فلما صحا بورفيريوس أخبر من معه بما شاهد ودعا صاحب السفينة وقال له: أتريد للعاصفة أن تهدأ؟ فأجاب: طبعاً! فقال: إذن اكفر بإيمانك وعُدْ إلى الإيمان القويم! فاندهش صاحب السفينة لأنه لم يُخبر أحداً بمذهبه وأجاب: إني أرى أن لك علماً بمكنونات القلوب، لذلك أقول لك إني من هذه الساعة أنكر هرطقة آريوس وأسألك أن تعلّمني الإيمان الصحيح. فأخذه الأسقفان وصلّيا عليه وختماه وكلّماه بكلام الإيمان القويم وناولاه الأسرار المقدّسة. في ذلك الوقت بالذات هدأت العاصفة فسارت السفينة في البحر أربعة أيام أخرى إلى أن وصلت إلى مايوما، مرفأ غزّة.
تداعى المسيحيون هناك لاستقبال أسقفهم العائد، فانتظموا في موكب يتقدّمه الصليب وأخذوا ينشدون المزامير. الوثنيون ذابت قلوبهم لأنهم سمعوا أن الأسقفين أخذا موافقة الأباطرة على دكّ هياكل الأصنام.
ولما وصل الموكب إلى المدينة مرّوا بتمثال من المرمر لأفر وديتي، إلهة الخصب. فاضطرب الروح الخبيث المقيم في التمثال من مرأى الصليب المقدّس وخرج منه. وإذ بالوثن يهوي إلى الأرض ويتحطّم من ذاته. وإن اثنين من الوثنيين كانا في الموضع يسخران من المسيحيين فهشّم التمثال رأس أحداهما وكسر كتف الثاني ومعصمه. فلما رأى وثنيون آخرون ما حدث استشعروا وانظموا إلى موكب المسيحيين ودخلوا معهم إلى كنيسة السلام واقتبلوا الختم. وقد وعظهم بورفيريوس ودعاهم إلى المثابرة على صلوات الكنيسة ثم أطلقهم. كان عددهم تسعة وثلاثين شخصاً.
أما يوحنا، رئيس أساقفة قيصرية، فأقام يومين في غزّة ثم عاد إلى دياره.
دكّ الهياكل
بعد أيام قليلة باشر موظّفون مدنيون وعسكريون بتنفيذ الأمر الملكي. قبل ذلك كان قد غادر المدينة عدد من سكانها الوثنيين الذين عرفوا بما هو مزمع أن يكون، لاسيما الأغنياء. كانت في غزّة ثمانية هياكل وثنية. أهمها هيكل زفس الذي كان من أشهر هياكل المسكونة. وقد تمّ هدم الهياكل وإحراقها في عشرة أيام. فقط هيكل المرناون، أي هيكل زفس، احتار المؤمنون والجند كيف يدكّونه لأنه كانت فيه ممرّات سرّية ومخابئ والكّهان سدّوا الأبواب بحجارة ضخمة. لذا دعا بورفيريوس إلى الصوم والصلاة عسى الرب الإله يكشف كيفية تطهير المكان. أخيراً، أثناء القداس الإلهي المقام مساء، تكلّم الرب يسوع بولد في السابعة من عمره وعيَّن بالتفصيل كيفية إحراق الهيكل الداخلي لأن نجاسات كثيرة مورست فيه، لاسيما تقديم ضحايا بشريّة. أما الهيكل الخارجي والساحة فُيتركان. ثم بعد تطهير المكان يُصار إلى بناء كنيسة. وقد تكلّم الولد باللغة السريانية. ولما أخذ الأسقف الولد على حدة وسأله من أين جاء بالكلام الذي تفوّه به لم يردّ. وبعدما ألحّ عليه أعاد الكلام بعينه ولكن باللغة اليونانية مع أنه لم يكن يعرف اليونانية لا هو ولا أمّه. وكما أوعز الصبي هكذا كان. كذلك أُخرجت الأوثان من البيوت وحُطّمت وأُحرقت إضافة إلى كتب السحر.
مزيد من المهتدين
إثر ما جرى انضم إلى الكنيسة عدد وافر من الوثنيين، بعضهم بدافع الخوف وبعضهم عن قناعة. وقد قبلهم الأسقف جميعاً واهتم بتعليمهم مؤكداً أن بعضهم ولو أتى وفي نفسه شيء من الشك فإن الأيام كفيلة بتغيير قلبه بنعمة الله. حتى ولو كان عدد منهم غرقى الآثام التي ارتكبوها في سابق عهدهم فإن الخلاص يمكن أن يطال ذريتهم.
كنيسة جديدة
وفيما كان الأسقف والمؤمنون محتارين في شأن تحويل ما تبقّى من هيكل زفس بعد إحراقه إلى كنيسة أو إنشاء كنيسة جديدة في الموضع، وصل رسل من القسطنطينية ومعهم رسالة من الملكة ورسم للكنيسة التي تريد أن يباشر الأسقف ومؤمنو غزّة ببنائها وكانت بشكل صليب. فتداعى المؤمنون، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساء، إلى العمل على إنشاء الكنيسة الجديدة. وقد دكّوا الرخام المتبقي من هيكل زفس وبلّطوا به الطرقات، واستعان الأسقف بمهندس إنطاكي اسمه روفينوس للإشراف على بناء الكنيسة الجديدة. وقد تمّ إرسال الأعمدة والمرمر للكنيسة من القسطنطينية، اثنين وثلاثين عموداً. كما أعدّ الغزّاويون حجارة ضخمة من إحدى التلال غربي المدينة. يُذكر أن جميع المسيحيين عملوا في بناء الكنيسة الجديدة بمن فيهم بورفيروس الأسقف.
وحدث بعد قليل من مباشرة العمل أن ثلاثة أولاد دنوا من بئر في الهيكل الوثني. وإذ كانوا يسعون إلى الحصول على بعض الماء منه انكسر بهم الخشب الذي كانوا واقفين عليه وهووا في باطن الأرض. فتسارع المؤمنون إلى نجدتهم وأخذوا ينادونهم فلم يُسمع لهم صوت وكانت البئر عميقة. وحضر بورفيروس الأسقف وأخذ في الصلاة والبكاء سائلاً الرب الإله أن يحفظ الأولاد لئلا يقول الوثنيون عن المسيحيين: أين هو إلههم؟ وبعد سحابة ساعة من الزمن طلب أن يُمَدَّ حبل إلى قعر البئر ونزل أحد المؤمنين فإذا به يجد الأولاد الثلاثة على صخرة سالمين معافين وكانوا في النور فمجّدَ الله ونادى أن الأولاد بخير. ثم أنهم سُحبوا من البئر فكان فرح الكنيسة بعمل الله وشكرُهم له عظيماً. يذكر أن صليباً ارتسم على كل من الأولاد الثلاثة بلون الحمرة.
استغرق بناء الكنيسة خمس سنوات وأُطلق عليها اسم أفدوكسيانا نسبة للملكة أفدوكسيا، ووُزِّعت العطاءات على الغرباء والفقراء إثر تدشينها.
رقاد بورفيروس
استمرّ بورفيروس في التصدّي للوثنيين في غزّة والعمل على هدايتهم إلى النهاية. وقد رقد في الرب بعدما خدم أسقفاً أربعاً وعشرين سنة وأحد عشر شهراً وثمانية أيام. وأوصى بتوفير الحسنات للفقراء على نحو منتظم وضيافة الغرباء. كان رقاده في 26 شباط عام 420م.