ترتكز هذه المساندة على عدّة عوامل تمكّن المرأة من خوض الغمار السّياسيّ بثقة متحمّلة مسؤوليّة قراراتها.
أهمّ هذه العوامل:
- أولاً: العامل التّربويّ:
إنّ التّربية هي نقطة الانطلاق الّتي نبدأ منها حتّى نصل إلى تكوين شخصيّة المرأة وبنائها على أسس متينة تمكّن المرأة من الاندماج في المجتمع، وتحديد أهدافها وممارسة حقوقها وواجباتها. والنّقطة الأهمّ في التّربية والّتي ترتكز عليها كلّ مقوّمات السّلوك السّليم، هي تربية المرأة على أنّها إنسان أوّلاً، وأنّ إنسانيّتها ذات قيمة تشكّل جزءاً مهمّاً من تقدّم المجتمع وتطويره.
إنّ الوعي الإنسانيّ عند المرأة بأنّها قيمة هو الّذي يجعلها تتبيّن حقوقها وواجباتها، وهو الّذي يمكّنها من احترام ذاتها كقيمة إنسانيّة فتصقلها وتثقّفها، وبالتّالي متى انخرطت في المجتمع وتبيّنت ثغراته استطاعت أن تعالجها بحكمة واتّزان. كما أنّ وعيها الإنسانيّ يبيّن لها مساواتها مع الرّجل من حيث حقّها السياسيّ والاجتماعيّ. ولا نتكلّم هنا عن مساواة عبثيّة، بل عن حقّ يمنح لها كما يمنح للرّجل دون تمييز. وطبقاً لهذه المساواة لا تشعر المرأة أنّها دون الرّجل منزلة، فتخرج من دائرة الصّراع ضدّه، لأنّ هذا الصّراع يحول بينها وبين تقدّمها، ويؤخّر نشاطها، ويلهيها عن إنجازات عدّة وعن أهدافها الكبرى.
إنّ التّربية السّليمة تتضمّن بشكل أساسي السّماح للمرأة بالتّعبير عن رأيها واتّخاذ القرار وتحمّل مسؤوليّته، والسّماح لها باختبار حياتها الإنسانيّة وتوجيهها كي تتكوّن لديها شخصيّة مستقلّة وخبرة حياتيّة تخوّل لها تبيان صوابيّة الأمور.
- ثانياً: العمل التّعليميّ:
إنّ دور المؤسّسات التّعليميّة لا يقتصر على تلقين المناهج وحسب، وإنّما يساهم في صقل شخصيّة الطّالب والطّالبة وزرع القيم والمبادئ الإنسانيّة فيهما، على أن تثمر لاحقاً فكراً مستنيراً وخلّاقاً. ويأتي دور المؤسّسات التّعليميّة في المقام الأوّل في ترسيخ القيمة الإنسانيّة لدى الطّلاب وتعزيز النظرة إلى المرأة باعتبارها قيمة إنسانيّة قبل أن تكون قيمة أنثويّة، وبأنّها كيان أساسيّ ذو حقوق وجب احترامها. ويتمثّل دور المؤسسات التعليمية في المقام الثّاني في تغذية المرأة بالمعرفة وتدريبها على التّحليل والاختبار قبل تلقين المعلومات، حتّى تكون قادرة على أن تكون شخصيّة مستقلّة مبدعة ومشاركة في العمل السياسيّ في مختلف الرّتب والمجالات.
إنّها حين تبلغ هذا القدر المطلوب من الوعي السياسيّ والمدنيّ، تصبح جاهزة لاتّخاذ القرارات المناسبة وهي تتولّى المسؤوليات السياسيّة، في إطار التّوازن بين مجتمعها العائليّ والآخر العمليّ، فتكون مواطنة ذات كفاءة ورصانة، قادرة على تحقيق ذاتها دون أن تغلّب حقّها على واجبها. واتّخاذ القرار يتطلّب شجاعة وحكمة وتبصّر، خاصّة إذا ما كان بهدف التّغيير، وما لم تتدرّب المرأة على تلك العناصر الثّلاثة فلن تكون مهيّأة لخوض غمار العمل السياسي، ولا أيّ عمل آخر.
إنّ العمل السّياسيّ، خاصّة في وطننا العربي، يحتاج إلى إعادة تأهيل، لأنّه لم يعد يقوم على أهداف سّياسة، أي على مفهوم للسياسة يجعلها فنّ الممكن، وخدمة للوطن، بل أصبح مقتصراً على الصّفقات والمصالح الشّخصيّة وإثبات النّفوذ. وهذا تحدٍّ آخر يضاف إلى تحدّيات المرأة في العمل السّياسيّ، إذ إنّه ينبغي عليها أن تحمل التّغيير إلى وطنها فتبدّل الوضع القائم، وتعيد للعمل السّياسيّ مقامه الرّفيع والنّبيل.
- ثالثاً: العامل الإعلاميّ:
الإعلام بما يمثّله من دور عظيم في التّوجيه والإرشاد وإيصال المعلومات والثّقافات، يبقى مقصّراً بشكل عام في تطوير ثقافة مجتمعاتنا العربيّة وتقدّمها، وذلك لأنّه يتّخذ وجهة سياسيّة معيّنة، كما أنّه بأغلبه موجّه دينياً واجتماعيّاً وفكريّاً، ولم يعد يؤدّي مهامه وأهدافه بشكل شموليّ. وفيما يخصّ توجيه المرأة وتثقيفها، فنكاد لا نشهد إلّا قلّة قليلة جدّاً تجاهد في هذا الموضوع. فإعلامنا بأغلبه يقتصر إمّا على التّوجيه الدّينيّ المتشدّد، وإمّا على التّحريض الطّائفي والمذهبيّ ولا سيّما السّياسيّ، وإمّا على المسلسلات الّتي تنقل لنا واقع مجتمعات لا تمتّ إلينا بصلة. ناهيك عن إلهائنا بالموضة وكيفيّة إجراء عمليّات التّجميل إلى ما هنالك من سخافات لا ترسّخ ثقافة إبداعيّة ولا تعزّز الدّور الأدبيّ والفكريّ والاجتماعيّ للمرأة، كما أنّه ما زال يظهر المرأة كسلعة تجاريّة واستهلاكية. وقد تساهم المرأة في ذلك من خلال مجاراتها في تقديم برامج بعيدة عمّا يسهم في تطوير المرأة بشكل عام وتثقيفها وإرشادها. حتّى وإن وجدت قنوات خاصّة بالمرأة، فهي لا تأتينا إلّا بالشّحيح من المواضيع الثّقافيّة والعلميّة وتكتفي بالبرامج الّتي هي ما دون المستوى المطلوب، إن على المستوى الفكريّ أو الاجتماعيّ أو الثّقافيّ. وحتّى لو توجّهنا إلى العالم الإلكترونيّ ووسائل التّواصل الاجتماعيّ والمواقع الإلكترونيّة فهي أيضاً مطالبة بمقاومة عواصف الجهل والتّعصّب والتّخلّف. كذلك السّعي إلى توجيه المرأة في شتّى المجالات الفكرية والثّقافيّة، وإعادة إحياء ثقافتنا الغنيّة بالأدب والفكر والعلم.
بناء على هذه العوامل الثّلاثة، وانطلاقاً من تأديتها لمهامها الّتي تندرح في إطار التّوعيّة وتعزيز الثّقافة لدى المرأة، سيكون باستطاعة المرأة الانخراط في العمل السّياسيّ من حيث تحديد أهدافها الّتي تصبو إلى التّغيير، ثمّ العمل عليها بشكل جدّيّ وحرّ دون الانزلاق في أفخاخ المصالح السّياسيّة، مع السّعي للوصول إلى مراكز القرار.
والمطلوب من المرأة كي تتمكّن من إثبات حضورها وفعاليّة عملها، أربعة أمور أساسيّة:
- الأمر الأوّل:
ثورة نسائيّة حقيقيّة، والحديث هنا عن ثورة فكريّة وعمليّة، وليس ثورة في الشّارع، فقلّما تأتي ثورة الشّارع بنتائج سليمة. المطلوب ثورة "داخليّة" على المستوى الشّخصيّ والاجتماعي في شتّى الأماكن الّتي تشغلها المرأة. هذه الثّورة الفكريّة والعمليّة ستؤسّس لنهضة تبنى عليها كلّ أهداف المرأة، ومن خلالها وبعد تحقيق الأهداف تتمكّن المرأة من الانخراط في العمل السّياسيّ بهدف الإصلاح وإنقاذ أوطاننا من الحال الّتي بتنا عليها.
- الأمر الثّاني:
عدم السّماح بالانزلاق في أفخاخ المهاترات السّياسيّة، واستخدام ورقة حقّ المرأة في خوض المعارك السّياسيّة، كالانتخابات النّيابيّة والنّقابيّة... فكثيراً ما نسمع عمّن يناشدون بحقّ المرأة ويطالبون به في مواسم معيّنة وظروف محدّدة وبعد ذلك يتغاضون عن ذلك إلى أن يأتي موسم جديد.
- الأمر الثّالث:
إنهاء الصّراع ضدّ الرّجل، فهو يعطّل المسيرة نحو الهدف الأساسيّ، وقد يدخلها في متاهات هي بغنىً عنها. وحتّى منافسة الرّجل، فهي تتطلّب مناخاً محدّداً، أي قوانين تشكّل لا رادعا للرّجل وحسب وإنّما لترعى حقّ المرأة باعتبارها طرفا أساسيّا في الحياة المدنيّة والسياسيّة، تتمتّع بالحقّ الكامل في ممارسة أيّ نشاط فكريّ أو سياسيّ، وتولّي أيّ خطّة أو منصب من المناصب العليا في الدّولة.
- الأمر الرّابع:
عدم استجداء حرّيّتها وحقّها من الرّجل. من المهمّ أن نرى كوكبة من الرّجال المثقّفين الّذين يحترمون المرأة كإنسان أوّلاً، ومن الجيّد أن نشهد لهم مشاركة وحثّ المجتمع على منحها حقّها كاملا في ممارسة العمل السّياسيّ، إلّا أنّ على المرأة أن تسعى إلى هذا الحقّ وأن تناضل في سبيله بنفسها وبقدراتها الثّقافيّة والفكريّة. فالحرّيّة والحقّ لا يُمنحان وإنّما هما استحقاق يتحصّل عليهما الإنسان بشكل عام من خلال المثابرة وبذل الجهود وإظهار الكفاءة وإثبات الجدارة..
لقد انتظر "فيكتور هوغو" من المرأة أن تنهي الحروب، ونحن اليوم ننتظر من المرأة أن تبدّل معالم أوطاننا الّتي شوّهها الجهل وقلّة الوعي. بل نتطلّع إلى مستقبل زاهر لأوطاننا إذا ما وثقنا بنساء رائدات، وحاملات لمنارة الفكر الحرّ والعقل الواسع الآفاق، وواثقات بأنفسهنّ. فالمرأة كائن يحمل في ذاته طاقة عقليّة وطاقة عاطفيّة معاً، تمكّنها الأولى من إدارة الأمور بحكمة واتّزان، وتشترك الثّانية في ازدهار الحياة برفق ولين، نابذة العنصريّة والتّعصّب والانفراد بالرّأي والسّلطة.