الأصحاح التاسع
1 وَقَالَ لَهُمُ:«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ههُنَا قَوْمًا لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللهِ قَدْ أَتَى بِقُوَّةٍ».2 وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَل عَال مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، 3 وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدًّا كَالثَّلْجِ، لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذلِكَ. 4 وَظَهَرَ لَهُمْ إِيلِيَّا مَعَ مُوسَى، وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ مَعَ يَسُوعَ. 5 فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقولُ لِيَسُوعَ:«يَا سَيِّدِي، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً، وَلِمُوسَى وَاحِدَةً، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً». 6 لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ إِذْ كَانُوا مُرْتَعِبِينَ. 7 وَكَانَتْ سَحَابَةٌ تُظَلِّلُهُمْ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلاً:«هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا». 8 فَنَظَرُوا حَوْلَهُمْ بَغْتَةً وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا غَيْرَ يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُمْ.9 وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ، أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يُحَدِّثُوا أَحَدًا بِمَا أَبْصَرُوا، إِلاَّ مَتَى قَامَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ. 10 فَحَفِظُوا الْكَلِمَةَ لأَنْفُسِهِمْ يَتَسَاءَلُونَ:«مَا هُوَ الْقِيَامُ مِنَ الأَمْوَاتِ؟» 11 فَسَأَلُوهُ قَائِليِنَ:«لِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلاً؟» 12 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلاً وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ. وَكَيْفَ هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا وَيُرْذَلَ. 13 لكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا أَيْضًا قَدْ أَتَى، وَعَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ».(عدد 1-13).
ثم أن الرب وجد الفرصة مُلائمة لإعلان مجدهِ الشخصي، وأن يُوطد إيمان التلاميذ ويُبين أن حضورهُ بالنعمة كمسيا في وسط إسرائيل كان مزمعًا أن ينتهي، وأن مجد ابن الإنسان الجديد ومجد خاصتهِ كان مزمعًا أن يتولى ويسود، على أن الضرورة تقضي بالانتظار حينًا حتى يجمع كل شُركائهِ في الميراث معًا. وقال لهم: «الحق أقول لكم أن من القيام ههنا قوم لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة». ثم بعد ستة أيام أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا وصعد بهم إلى جبلٍ عالٍ مُنفردين وحدهم وتغيرَّت هيئتهُ قدامهم وصارت ثيابهِ تلمع بيضاء جدًا كالثلج… الخ. فكان بطرس ويعقوب ويوحنا القوم الذين أشار إليهم الرب أنهم لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة والتجلي هو إتيان ملكوت الله بقوةٍ. ولنا على ذلك شهادة بطرس الرسول نفسهُ إذ قال: «لأننا لم نتبع خرافات مُصنَّعة إذ عرَّفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئهِ، بل قد كنا معاينين عظمتهُ؛ لأنهُ أخذ من الآب كرامةً ومجدًا إذ أقبل عليهِ صوت كهذا من المجد الأسنى هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سُررت بهِ، ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء إذ كنا معهُ في الجبل المقدس» (بطرس الثانية 16:1-18). فهذه هي كلمات الرسول حين قصَّ ما حدث لهُ رأى ذلك المشهد العجيب على جبل التجلي. فنتعلم من هذه الحادثة ما هو ذلك الملكوت المتعلق بظهورهِ على الأرض؛ لأنهم كانوا حينئذٍ على الأرض لا في السماء، أما السحابة اللامعة التي دخلوا فيها وأتى منها صوت الله فإنما هي كناية عن مسكن الله، ويجب أن نُلاحظ أن الرب قد أشار إلى حادثة التجلي العتيد أن يحصل. بمرأى البعض لم يذكر مجيئهِ بمجد أبيهِ مع الملائكة القديسين، بل قال: «حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوةٍ». ثم نرى أن الملكوت إنما أتى بقوة لنظر أولئك الثلاثة فقط ليس للعالم ولا لباقي التلاميذ، ثم جعلهُ الموت حدَّا لرؤيتهم التجلي لا يقتضي مرور زمان طويل؛ لأن الموت يُنظر إليهِ في الكتاب كقريب جدًا.
فيا لها من امتيازات وعطايا يتمتع بها الإنسان المائت الأثيم! بأن يسمح له بالتفرُّس بابن الله في المجد وأن الله في المجد، وأن يظهر معهُ مُمجدًا على الأرض، وأن يكون رفيقهُ ويتحادث معهُ وينال الشهادة بأنهُ قد أحب كمحبة الابن، وأن يكون معهُ ومثلهُ كإنسان في كل شيء لأجل مجدهِ الخاص. فما ذلك إلا بينة عجيبة على قيمة الفداء الذي أكملهُ. فكلما ازددنا قربًا منه اضطرمت عبادتنا فأن نكون معهُ كما سنكون في بيت أبينا. إن مشورة الله الأزلية قد شاءت أن نكون مع المسيح آدم الثاني والأخير، وأن نشترك معهُ في المجد وقد قدر علينا أن نكون مُشابهين صورة ابنهِ ليكون هو بكرًا بين أخوة كثيرين. فلهذه الغاية صار إنسانًا ليكون المقدس والمُقدَّسين جميعهم من واحد؛ لكيلا يستحي أن يدعوهم أخوة. لا جُرم أن الأفضل لنا جدًا أن نكون رُفقاء يسوع في بيت الآب من أن نكون شُركاء ميراث مجدهِ لدى العالم، غير أن كِلا الأمرين ساميان وعجيبان لنا نحن الأثمة البائسون. فإيليا وموسى هما الآن في المجد نفسهِ ونحن سنكون مثلهُ عند ظهورهِ.
على أن الله لابد أن يُحافظ على مجد المسيح الشخصي في كل الأحوال، فلما طلب بطرس أن يصنع ثلاث مظال وأن يعامل المسيح وموسى وإيليا رجال التاريخ الإسرائيلي العظام معاملة واحدة فموسى وإيليا غابا عن الأبصار على الفور واعترف الآب بيسوع كابنهِ الحبيب. فلصوتهِ يجب أن نسمع، فكل ما قالهُ موسى وإيليا إنما هو الحق وكلمة الله وبواسطتهما نعرف أفكار الله، ولكنهما قد أديا الشهادة ليسوع لا لنفسيهما. فلا نتعلَّم مشيئة الله كل العلم إلا منهُ وحدهُ. فإنهُ هو الحق نفسهُ والنعمة والحق بهِ صارا. فإن موت المسيح وقيامتهِ وفداءهِ الكامل وضعت الإنسان في مركز جديد ومقامٍ سامٍ.
فالمؤمنون الذين عاشوا قبل إتيان السيد آمنوا بالمواعيد والنبوات المُنذرة بقدومهِ وقبلوها بالإيمان فغفرت خطاياهم المُرتكبة أثناء إمهال الله وصبرهِ، وقد عمل ذلك الله بالنظر إلى العمل الذي كان مزمعًا أن يُكملهُ فيما بعد؛ لأن أساس عملهِ لم يظهر حتى بعد موت المسيح، أما الآن فقد أُعلن بر الله وظهرت قوة الحياة الإلهية بقيامة يسوع المسيح. فأصبحت نسبنا مع الله نسبة جديدة وتمزَّق الحجاب فتيسر لنا الد*** إلى قدس الأقداس، وقد ظهر بر الله بدون الناموس مشهودًا لهُ من الناموس والأنبياء. هوذا موسى وإيليا ظاهران في المجد، غير أن المجد الذي ظهرا بهِ ليس من أثمار الناموس ولا النبوة، بل من نتائج عمل المسيح ولا يستطيع الإنسان أن يفوز بهِ إلا في حال القيامة. فإذًا قيامة المسيح ضرورية جدًا؛ لأنها قوة الحياة وراء الموت وبينة على أن الله قَبِلَ موت المسيح للتكفير عن الخطية. فالمجد الذي حصلهُ المسيح ابن الله للمؤمنين بذبيحتهِ، إنما هو متعلقات عالم آخر، على أنهُ كان يجب أن يكمل في هذا العالم. إذًا لا يختص هذا المجد إلا بالحال التي دخل فيها المسيح آدم الثاني بالقيامة وقد تأسست على الفداء الكامل. فهذه الحادثة وإن كانت مما تُقوي إيمان أعمدة الكنيسة الثلاثة المشار إليهم وتزيد فهمهم وإدراكهم، فقد حُتم عليهم أن لا يعلنوها قبل القيامة. فنهى يسوع التلاميذ عن أن يذيعوا شيئًا مما رأُوهُ حتى يقوم ابن الإنسان من الأموات. فتأملوا بما قيل: فحفظوا الكلمة لأنفسهم، يتساءلون ما هو القيام من الأموات؟ فهذا مما يُزيد مسألة القيامة وضوحًا، فإن يسوع نهض وحدهُ من بين الأموات وترك سائر الناس في القبور. فقيامتهُ برهان على أن إله البر قَبِلَ ذبيحتهُ وفداءهُ كترضية كاملة قاطعة لبرّهِ وقداستهِ. وأنهُُ يقبل كل مَنْ آمن بهِ بحسب قيمة تلك الذبيحة.
ثم أن قيامة الأبرار تتم؛ لأن الله ارتضى بهم كل الارتضاء بواسطة عمل المسيح، فهؤلاء وحدهم يقومون عند إتيان السيد ليكونوا معهُ إلى الأبد. ولا يُخفى أن التلاميذ جميعهم آمنوا بأن الأموات سيُقامون؛ لأنهم تعلموا ذلك من الفريسيين فلم يكونوا مثل الصدوقيين، بل آمنوا أن اليهود جميعهم يقومون معًا. فمن ثمَّ لم يفهموا معنى القيامة من بين الأموات التي تفصل الأخبار عن الأشرار وتترك الفئة الأخيرة زمانًا في القبور. فالمسيح إنما هو باكورة قيامة القديسين لا الأشرار. والذين للمسيح سيقومون في مجيئهِ وسيتغير جسد تواضعهم إلى شبه جسدهِ المجيد، على أنهُ يوجد كثيرون من المسيحيين كالتلاميذ لا يفهمون كلام الرب في شأن القيامة من بين الأموات وإيمانهم كإيمان الفريسيين، فإنهم يعتقدون حقيقةً بوجود قيامة كما اعتقدت مرثا بأن الجميع سيقومون في اليوم الأخير. فالفرق الوحيد إنما هو أن مرثا واليهود اعتقدوا بقيامة الإسرائيليين فقط وهؤلاء المسيحيون يذهبون، إلى أن الأبرار والأشرار يقومون معًا.
لا جرم أن الجميع سيقومون، ولكن الإيمان الحقيقي بالمسيح يجعل الفرق بيننا. فإن الغير المؤمن يبقى في خطاياه وينهض للدينونة، أما المؤمن الحقيقي فينهض لقيامة الحياة ويقوم في المجد كما ورد في (كورنثوس الأولى 42:15-44). فحين يأتي السيد يُغير جسد تواضعنا إلى شبه جسدهِ المجيد. فالمسيح هو باكورة القيامة، ولكن لا قيامة الأشرار فلا نرى قط في كل فصول الكلمة الإلهية قيامة عامة للصالحين والأشرار، بل نرى في (لوقا 14:14) قيامة الأبرار مذكورة، وفي أصحاح (35:20) يُقال: «ولكن حُسبوا أهلاً للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات». وذلك يُطابق ما قيل في (كورنثوس الأولى أصحاح 15): «كل واحد في رُتبتهِ المسيح باكورة ثم الذين للمسيح في مجيئهِ».
وهكذا ورد في (تسالونيكي الأولى أصحاح 16:4): «والأموات في المسيح سيقومون أولاً». فالبعض يقتبسون الآيات الواردة في (مَتَّى 31:25-46) إثباتًا لاعتقادهم بقيامة عامة، غير أن المسألة في هذه العبارة لا تعلُّق لها بالقيامة ولا بالأجساد المُقامة والدينونة المذكورة فليست بدينونة عامة، بل دينونة الأُمم على الأرض أولئك الذين ستُرسل لهم بشارة أبدية، كما نرى في (رؤيا 6:14) فلا تُذكر في هذا الأصحاح فئتان من الناس فقط، بل ثُلث وهي الغنم والجداء وأخوة الديان. فمبدأ الدينونة هنا ليس بمبدأ دينونة عامة بحيث أن القضاء يجري بحسب الكيفية التي قبلوا بها أخوة الديان واعتبروهم حينما يُنادون بالبشارة الأبدية، أما مبادئ دينونة الأُمم العامة فمُفسرة في (رومية 4:2-11) وهي تختلف كل الاختلاف عما ورد في (مَتَّىَ 25) وبالحقيقة المؤمنون لا يأتون إلى الدينونة، كما قال الرب في إنجيل (يوحنا 24:5): «الحق الحق أقول لكم مَنْ يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فلهُ حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة». لا جرم أننا سنقف أمام كرسي المسيح وكل واحد سيُعطي عن نفسهِ حسابًا لله. ولكن حين يقف المؤمنون لدى كرسي المسيح يكونون قد تمجدوا ونهضوا في المجد وتحولوا إلى شبه جسد المسيح بحسب كونهِ إنسانًا. فحين يظهر نكون مثلهُ، فلأجل ذلك كل مَنْ عندهُ هذا الرجاء بهِ يُطهر نفسهُ كما هو طاهر، يعني يقيننا الشديد بأن لا شيء من الدينونة علينا وبأننا سنظهر مع المسيح في المجد هو القانون لسلوكنا الآن بالتقوى وبهِ نُطهر أنفسنا عمليًّا.
إن مجيء المسيح الأول قد نزع الخطية بحسّب تعلُّقها مع الدينونة، ولكنهُ سيظهر ثانية للخلاص الكامل وليقبل المؤمنين لنفسهِ ويُمجدهم. على أن أرواحهم معهُ في السماء تنتظر تلك الساعة، أما قيامة أجسادهم فتتم حين إيابهِ وحينئذ نكون كلنا مع الرب إلى الأبد. فحين نتمجد سنُعطي حسابًا عن كل شيء وسنعرف كما عُرفنا. فهذه القيامة من الأموات التي ننتظرها.
فعرض للتلاميذ صعوبة في فهم القضية التي تكلم عنها الكتبة وهي وجوب إتيان إيليا قبل المسيح؛ لأن الكتبة كانوا لا يزالون أصحاب نفوذ وسطوة على التلاميذ. وبالحقيقة كانت تلك النبوة مُدرجة في سفر ملاخي ولا بد من إتمامها قبل إتيان السيد بالمجد كيفما كان أسلوب ذلك الأكمل، ولكنهُ أتى أولاً في حال وضيعة فكأنهُ كان مُستترًا بالنظر لمجدهِ الخارجي فقد دخل من الباب كراعي الخراف، وذلك لكي يرى القوم بالإيمان من خلال سحابة مركزهِ الوضيع ومن حياتهِ اليومية ويُميزوا أنهُ هو مسيا إسرائيل الموعود بهِ محبة الله نفسهِ وقوتهِ ويُشاهدوا أنفسهم في حضرة قداستهِ.
أما اليهود فكانوا متأهبين الترحيب بمسيا يُحررهم من النير الروماني، غير أن حضرة الله أم لا يحتملهُ الإنسان حتى وإن كان قد ظهر بين البشر بالجودة والصلاح. وقد أشار الرب إلى مجيئهِ المُزمع بقولهِ في (مَتَّىَ 23:10): «لأني أقول لكم أنكم لا تكملون مُدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان، ولكنهُ قد ظهر الآن في حال وضيعة. وقد جُعل أدنى من الملائكة لتجرعهِ كأس الموت (أي لكي يستطيع أن يتألم)». وعلى هذا المنوال أتى يوحنا المعمدان أيضًا بروح إيليا وقوتهِ كما ورد في (إشعياء 3:4؛ ملاخي 5:3، 6) لكي يُهيئ طريق الرب، فلذلك أجاب السيد بقوله:ِ أن إيليا لا بد أن يأتي. وبجوابهِ صادق على تعليم الكتبة بما قالوا في شأن هذا الموضوع، ولكن كان لا بد أن يتألم ابن الإنسان ويُرذل. ولكني أقول لكم: «أن إيليا قد أتى وعملوا بهِ كل ما أرادوا كما هو مكتوب عنهُ. وكانوا مُزمعين أن يعملوا كذلك مع ابن الإنسان أيضًا».
14 وَلَمَّا جَاءَ إِلَى التَّلاَمِيذِ رَأَى جَمْعًا كَثِيرًا حَوْلَهُمْ وَكَتَبَةً يُحَاوِرُونَهُمْ. 15 وَلِلْوَقْتِ كُلُّ الْجَمْعِ لَمَّا رَأَوْهُ تَحَيَّرُوا، وَرَكَضُوا وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ. 16 فَسَأَلَ الْكَتَبَةَ:«بِمَاذَا تُحَاوِرُونَهُمْ؟» 17 فَأَجَابَ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمْعِ وَقَالَ :«يَا مُعَلِّمُ، قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكَ ابْنِي بِهِ رُوحٌ أَخْرَسُ، 18 وَحَيْثُمَا أَدْرَكَهُ يُمَزِّقْهُ فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ. فَقُلْتُ لِتَلاَمِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا». 19 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ!». 20 فَقَدَّمُوهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا رَآهُ لِلْوَقْتِ صَرَعَهُ الرُّوحُ، فَوَقَعَ عَلَى الأَرْضِ يَتَمَرَّغُ وَيُزْبِدُ. 21 فَسَأَلَ أَبَاهُ:«كَمْ مِنَ الزَّمَانِ مُنْذُ أَصَابَهُ هذَا؟» فَقَالَ: «مُنْذُ صِبَاهُ. 22 وَكَثِيرًا مَا أَلْقَاهُ فِي النَّارِ وَفِي الْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ. لكِنْ إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئًا فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا». 23 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ. كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ». 24 فَلِلْوَقْتِ صَرَخَ أَبُو الْوَلَدِ بِدُمُوعٍ وَقَالَ:«أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي». 25 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ الْجَمْعَ يَتَرَاكَضُونَ، انْتَهَرَ الرُّوحَ النَّجِسَ قَائِلاً لَهُ:«أَيُّهَا الرُّوحُ الأَخْرَسُ الأَصَمُّ، أَنَا آمُرُكَ: اخْرُجْ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلْهُ أَيْضًا!» 26 فَصَرَخَ وَصَرَعَهُ شَدِيدًا وَخَرَجَ. فَصَارَ كَمَيْتٍ، حَتَّى قَالَ كَثِيرُونَ: «إِنَّهُ مَاتَ!». 27 فَأَمْسَكَهُ يَسُوعُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ، فَقَامَ. 28 وَلَمَّا دَخَلَ بَيْتًا سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَلَى انْفِرَادٍ:«لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» 29 فَقَالَ لَهُمْ:«هذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ». (عدد 14-29).
أما السيد وإن كان قد ظهر بالمجد لدى أبصار التلاميذ في التجلي فقد اهتمَّ الآن بشفاء العالم الساقط، ذلك تُمثلهُ الحادثة المذكورة تمثيلاً جديرًا بالالتفاف وتدل على صبرهِ العجيب وعلى أفكار الله السامية، فإنه حين انحدر من الجبل رأى جمهورًا عظيمًا والكتبة يتحاورون مع تلاميذهِ، فهذه حقيقة مباركة يليق بنا التأمل بها وهي أن الرب ابن الله الذي سوف يظهر في المجد ونكون معهُ ما فتئ ينحدر إلى هذا العالم كما يفعل الآن بروحهِ ويُلاقي الجمهور ويُصادم قوة الشيطان لأجلنا. ثم يليق بنا أن نُمعن النظر بهذه الحقيقة أيضًا وهي أنهُ يتكلم مع تلاميذهِ بالوداد التام كما كان يتكلم مع موسى وإيليا. فيا لعظمة نعمتهِ! غير أن إجراء هذه النعمة مما يُبين مقامهُ وحال الإنسان وحال تلاميذهِ. فإن والدًا بائسًا لجأ إليهِ طالبًا الشفاء لولدهِ المُصاب المُتألم من روح أخرس (أي روح ردي قد استولى على الولد ومن جُملة أعمالهِ معهُ ربط لسانهِ)، وقال ليسوع بأنهُ أحضرهُ إلى تلاميذهِ فلم يستطيعوا إخراج الروح النجس، فهذه هي حالتهم فلم يُصادف السيد عدم الإيمان فقط، بل أن القوة الإلهية وإن كانت قد حلَّت على الأرض لم يعلم الناس حتى المؤمنون كيف يستخدمونها وينتفعون بها. فإنهُ لهُ المجد يجترح المُعجزات، غير أن الإنسان لم يعلم كيف ينتفع بها أو يستخدمها بالإيمان. فقد كان جيلاً عديم الإيمان فلم يستطع الرب البقاء هنالك، فقد غادر ذلك المكان ليس بسبب قوة الشيطان وحضورهِ؛ لأنهُ إنما انحدر لهذه الغاية أي لأبطال تلك القوة، بل حين لم تعلم خاصتهُ كيف تنتفع من القوة والبركة اللتين أتى بهما إلى العالم ووضعهما في ما بينهم كان لا بد من وشك انقضاء ذلك النظام الممتاز بهذه العطايا، فذلك ناشئ لا من وجود عدم الإيمان في العالم؛ بل لأن خاصتهُ هم لم يستطيعوا إدراك القوة الموهوبة لهم. فترتب على ذلك سقوط شهادة الله وانهدامها بدلاً من توطدها وتشييدها؛ لأن إتباعهم هذه الشهادة لاقوا قوة العدو ولم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا، فكانت قوة العدو فاقت قوتهم.
فقال الرب: «أيها الجيل العديم الإيمان إلى مَتَىَ أكون معكم إلى مَتَىَ أحتملكم؟». فإن خدمتهُ على الأرض كانت قد انقضت، ولكن انظروا صبر الرب وصلاحهُ فلا يستطيع أن يُنكر نفسهُ، فكان يعمل في كل مدة وجودهِ هنا على الأرض بحسب قوتهِ ونعمتهِ رغمًا عن عدم إيمان خاصتهِ. ثم ختم الجملة التي وبخهم بها بهذه العبارة: «قدْموهُ إليَّ». نعم كان إيمان ذلك الوالد المسكين ضعيفًا جدًا، ولكن الرب لم يرفض طلبتهُ لقلة إيمانهِ، فإن الإيمان مهما كان قليلاً لا يتركهُ السيد بدون جواب. فما أعظم التعزية الناشئة من ذلك! وهي أن القليل الإيمان إذا وافى إلى المسيح بحاجتهِ الحقيقية وإيمانهِ البسيط وجد قلبهُ متأهبًا لا محالة لإسعافهِ وقوَّتهُ كافية لشفائهِ، بل إذا وُجدت نفس واحدة لها إيمان بجودة الرب يسوع وسلطانهِ فازت بقضاء حاجتها ونالت أمانيها.
فربما كانت الكنيسة في حال الخراب والانحطاط كما كان إسرائيل قديمًا، غير أن رأسها كافٍ لقضاء كل أمر فهو يعلم حال خاصتهِ ولا يتأخر عن سد حاجات شعبهِ. أما ذلك الصبي فكان في حال خطرة وكان الشيطان قد حلَّ فيهِ منذ طفوليتهِ، وكان إيمان الأب ضعيفًا، ولكنهُ كان حقيقيًا فقال ليسوع: «إذا كنت تستطيع شيئًا فتحنن علينا وأعنَّا» فجواب الرب جدير بالاعتبار فقال لهُ: «إذا كنت تستطيع أن تؤمن فكل شيء مُستطاع للمؤمن». فإن القوة تتحد مع الإيمان فالصعوبة ليست من جهة قوَّة المسيح لن تفرغ قط ولا تعجز عن القيام بكل ما هو لخير الإنسان، لكن وا أسفاه! ربما أعوزنا الإيمان للانتفاع بتلك القوة، غير أن الرب مُفعم من الصلاح. فقال ذلك الوالد البائس بدموع: «إني أُومن فأعِن عدم إيماني» تلك كلمات مُخلصة خارجة من قلب مُتأثر قد حرك فيهِ الرب عواطف الإيمان، غير أن شدَّة قلقهِ على ابنهِ قلَّلت إيمانهُ وأضعفتهُ، بحيث أنهُ كان ينظر إلى الأحوال المُتعبة والصعوبات العظيمة أكثر مما نظر إلى قوة الرب لإزالتها، وكان بطرس عمل هكذا حين نزل من السفينة ليمشي على الماء. ونحن أيضًا نتشبه بهما أوقاتًا كثيرة إذا تراكمت علينا الضيقات ونهتمُّ بها عوضًا عن أن ننظر إلى يد الرب المُقتدرة.
أما يسوع فقد جانب كل مظاهرة خارجية بهذا الأمر ولم يهتم إلا بحاجة الأب وابنه،ِ فأمر الروح النجس بسلطان أن يخرج من الغلام ولا يعود إليه أيضًا فخرج منهُ مُظهرًا في الوقت نفسهِ قوتهُ بتمزيق الولد حتى صرعهُ وتركهُ كمائت، ولكنهُ خضع كل الخضوع لسلطة الرب. فهذا لا ريب من المشاهد الجميلة بأن نرى السيد مُنطلقًا للقاء عدم إيمان العالم وخاصتهِ بعد ظهورهِ في المجد على الجبل وأن نُشاهدهُ ذاهبًا لمواجهة أولئك الضعيفي الإيمان المُفتقرين إليهِ وذلك في حضرة عدو ذي قوة عظيمة؛ لأنهُ لا يبتعد عنا في حالٍ كهذه، بل يشترك بأحزاننا ويُشجع إيماننا الضعيف وبكلمة واحدة يطرد كل قوة العدو. فلم تمنعهُ حالهُ المجيدة ولا عدم إيمان العالم الذي رفضهُ من أن يكون ملجأً وعلاجًا لأقل القوم إيمانًا، بل يهتم بنا ويُبالي بأحوالنا ويُعيننا.
فالرب وإن كان قد تقلد بالمجد بحسب حقوقهِ الإلهية لا تقل محبتهُ نحو جنسنا الإنساني البائس ولا تنخفض رأفتهُ علينا. ثم أننَّا نرى درسًا آخر مهمًّا في ختام هذه الحادثة وهي أن الإيمان القوي العامل سواء جرت المُعجزات في ذلك الحين أو في خلال الحوادث العظيمة في ملكوت الله يتأيد بشركة وطيدة مع الله وبالصلاة والصوم، فالقلب يخرج من حضرة الله ليطرد قدرة العدو، ولكن قوة الرب ونعمتهُ وإن كانتا عظيمتين لا تستطيعان أن تأتيان بالخلاص الكامل الأبدي بدون موت الرب على الصليب، فذلك عمل خطير للسيد نفسهِ ولا يستطيع عليهِ أحد سواهُ. على أن فهمهُ عسر للقلب الإنساني، ولكنهُ كان لازمًا كل اللزوم لمجد الله وفدائنا. ذلك درس ينبغي أن نتعلمهُ لنسير في سبل الله، وما ذلك إلاَّ عمل الصليب فنتعلم من ذلك درسًا مُفيدًا وهو أن لا بد لنا من حمل الصليب ونرى ذلك في الفصل الآتي.
30 وَخَرَجُوا مِنْ هُنَاكَ وَاجْتَازُوا الْجَلِيلَ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ، 31 لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ تَلاَمِيذَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ:«إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ. وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ». 32 وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا الْقَوْلَ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ. (عدد 30-32).
أما الآن فبعد أن أعلن الرب مجدهُ المزمع ومجد الملكوت، وبعد أن أُظهر قوتهُ وجودتهُ الكاملة رغمًا عن عدم إيمان العالم، وبعد أن انطلق عقب رفض العالم إياهُ أخذ تلاميذهُ على انفراد وهو مجتاز في الجليل وشرع يُفهمهم أن ابن الإنسان يجب أن يُسلَّم إلى أيدي البشر فيقتلونهُ. وهو يُلقب نفسهُ بابن الإنسان؛ لأنهُ لا يستطيع بعد البقاء على الأرض بصفة مسيَّا الموعود بهِ، لكنه لابد أن يُتمم عمل الفداء. وأنهُ بعد أن يُقتل يقوم في اليوم الثالث. ثم بعد إتمام عمل الفداء وإبداء الخليقة الجديدة بقيامة المسيح يصير مقام جديد لنا بموجب اقتراننا معهُ على هذه الحالة، وهو مقام أفضل وأسمى جدًا مما كان آدم فيهِ قبل سقوطهِ. فإنهُ كان كمخلوق حائزًا على بركات طبيعية إنما امتحن الله أمانتهُ فوجدها ساقطة. لا جُرم أن الخاطئ ليس هو في مقام المفديين، أما في آدم فجميع الأشياء تعلقت على مسئوليتهِ، وأما المسيح الإنسان الجديد الناهض من الأموات فقد أُمتحن كل الامتحان مدة إقامتهِ في هذا العالم فوجد كاملاً، وقد أُختبر حتى الموت فمجد الله تمجيدًا. فإنهُ حمل خطايانا ومحاها إلى الأبد. فقد خضع للموت، لكنهُ انتصر عليهِ وخرج منهُ ظافرًا، وكابد ضربة القضاء الإلهي على الخطية. فقد استخدم الشيطان قوتهُ كلها في موت يسوع بحسب كونهِ إله هذا العالم على أنهُ لم يكن ممكنًا أن يضبط منه، بل قام الرب من الأموات بعد احتمالهِ التجربة التي أسلم نفسهُ إليها حبًا بنا وتمجيدًا لله أبيه، فقمنا نحن معهُ بالإيمان والرجاء بفعل روح الله الذي يربطنا مع فادينا المجيد فلم يبقَ لتلك التجارب والآلام من سلطة عليهِ. وكما هو هكذا نحن في العالم فإن مقامهُ وحالهُ الآن هما لنا أيضًا.
فقد غلب الموت الذي أخضع آدم نفسهُ لهُ وانتزعت خطايانا لدى الله وأصبحنا بالنظر لضمائرنا مكملين إلى الأبد وبدأت بنا حياة جديدة وسماوية وتهيأ لنا مجد سماوي حيث دخل يسوع **ابق لأجلنا إذ كان مع الآب قبل تأسيس العالم، ونحن ننتظر قيامة الجسد. غير أن مقام المسيح كإنسان مُمجد إنما هو الثمر الناشئ من كونهِ قد مجد الله كل التمجيد، أما نحن فنشترك بحياتهِ بفعل روح الله ونُقاسمهُ أثمار عملهِ حتى في الوقت الحاضر بالنظر لمركزنا لدى الله. ثم سنُشابههُ في المجد كل المشابهة. ولا ريب في أن آدم كان سعيدًا في برارته،ِ غير أن تلك السعادة تعلقت على طاعتهِ. أما مقام يسوع كإنسان فإنما هو ثمر طاعتهِ الكاملة بعد أن أُمتُحِنَتْ حتى تجرَّع كأس الموت واللعنة حين صار خطية لأجلنا.
فالحالة الأولى، كانت عرضة للتغير وللخراب الكامل بالسقوط. أما الحالة الثانية، فعديمة التغير؛ لأنها موطدة على عمل يستحيل أن يفقد قوته قوتهُ فقد أصبحنا بهذا الاشتراك بحياة يسوع في نسبة جديدة مع الآب أدخلنا إليها يسوع المسيح؛ لأنهُ قال له المجد بعد قيامتهِ: «إني أصعد إلى أبى وأبيكم، وإلهي وإلهكم». فقد دعتهُ الضرورة إتمامًا لهذه الأشياء كلها أن يجتاز وادي الموت ويحمل الصليب ليشرب الكأس التي أعطاها الآب لهُ. فمن ثمَّ يستدعي التفات تلاميذهُ إلى موضوع الصليب ليُعلَّمهم أن يتوقعوا ذلك لأنفسهم، ولكن ما هو الإنسان وكيف يقبل هذه الحقائق. ذلك نتعلمهُ مما يأتي.
33 وَجَاءَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ. وَإِذْ كَانَ فِي الْبَيْتِ سَأَلَهُمْ:«بِمَاذَا كُنْتُمْ تَتَكَالَمُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فِي الطَّرِيقِ؟» 34 فَسَكَتُوا، لأَنَّهُمْ تَحَاجُّوا فِي الطَّرِيقِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي مَنْ هُوَ أَعْظَمُ. 35 فَجَلَسَ وَنَادَى الاثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَ لَهُمْ:«إِذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ أَوَّلاً فَيَكُونُ آخِرَ الْكُلِّ وَخَادِمًا لِلْكُلِّ». 36 فَأَخَذَ وَلَدًا وَأَقَامَهُ فِي وَسْطِهِمْ ثُمَّ احْتَضَنَهُ وَقَالَ لَهُمْ: 37 «مَنْ قَبِلَ وَاحِدًا مِنْ أَوْلاَدٍ مِثْلَ هذَا بِاسْمِي يَقْبَلُنِي، وَمَنْ قَبِلَنِي فَلَيْسَ يَقْبَلُنِي أَنَا بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي». (عدد 33-37).
إن يسوع كان لم يزل شاعرًا بمجدهٍ حين اعترف بهِ الآب مذ برهة كابنهِ الحبيب وعلم أن هذا المجد نفسهُ جعل الصليب لازمًا كل اللزوم ليأتي بأبناء كثيرين إلى المجد. فتكلم عنهُ مع تلاميذهُ وأكد لهم أن الضرورة تقضي عليهم بحملهِ أيضًا، فان هذا هو السبيل إلى المجد المؤسس على موتهِ، فكان حينئذ قلبهُ مفعمًا من أفكار الآلام المقترنة بالصليب ومن الكأس المزمع أن يتجرَّعها ومن ضرورة فهم تلاميذهُ هذه الحقيقة أي وجوب حملهم الصليب. أما تلاميذهِ فكانت قلوبهم ملآنة من أمور تباين تلك، فإنهم كانوا يُفكرون في مَنْ منهم هو الأعظم. فوا أسفاه! كيف أن قلوبنا عاجزة عن فهم أفكار الله وعن التأمل بمخلّص وضع نفسهُ حتى الموت لأجلنا. على أن روح الله يمُثل لنا هنا ملكوت المسيح المُنتظر من اليهود تمثيلاً يُباين ملكوتهُ السماوي الآخذ في أن يؤسسهُ تأسيسًا مبنيًا على موتهِ المحتوم، غير أن هذه المُقابلة المُتعا**ة تظهر بأشدّ وضوح في قلب الإنسان، فإنهُ يودّ أن يكون عظيمًا في ملكوت مُؤسس حسب مجد الإنسان وقوته ويعتبر من الأمور الحسنة أن يتنازل الله إجراء ذلك. أما الله فيرغب في تعظيم مجدهِ وتوطيدهِ أدبيًّا وخفض مجد الإنسان الباطل ومُلاشاتهِ وكشف حقيقة القلب الإنساني وإعلان محبتهِ وقداستهِ وعدلهِ. ذلك جميعهُ لا يطلبهُ الإنسان ولا يصبو إليهِ، فلما تكلم المسيح عن هذه الحقائق المُقدسة وقلبهُ ملآن من التأمل بها وبالآلام المُتحتم عليهِ مُكابدتها إتمامًا لِما قبل تشاجر تلاميذهُ في مَنْ منهم يكون الأعظم. فيا لانحطاط القلب الإنساني وشقاءهِ!
فما أعظم عجزنا وقصورنا عن فهم أفكار الله ، وعن الشعور برقَّة قلب يسوع وأمانتهِ ومقاصدهِ من نحونا! وما هي إلاَّ محبة إلهية تعتلن في قلب الإنسان، فإنهُ كان كإنسان في وسط أُناس لا قدرة أدبية لهم على فهم أفكار الله، غير أن هذا يُمهد السبيل لإعلان أفكارنا المُعا**ة أفكار يسوع مُعا**ةً كاملةً. فليمنحنا الله نعمتهُ لنُخضع الجسد كل الإخضاع حتى يكون الروح القدس ينبوع أفكارنا وكل حركات قلوبنا. على أن الضمير لا يصمت إذا علَّمتنا كلمة الله. فنعلم أن الرغبة في المجد الباطل أمر سيئ في نفسهِ ولا يليق بحضور المسيح فنخجل. فصَمَت التلاميذ؛ لأن ضميرهم كان يتكلم ويُوبخهم.
أما الآن فوجه السيد بمحبتهِ وصبرهِ وعنايتهِ لتعليمهم، فجلس ونادى الاثنى عشر، فعلى هذا المنوال يهتم بنا يسوع على الدوام. ثم علَّم مبادئ تفتقر للإيضاح. فالموضوع المُهم أساس أقوالهِ وتعاليمهِ هو أن مجد الملكوت المُزمع قد أُعلن وإن ذلك الإعلان مُقترن بالصليب. وإنهُ يُنهي كل النِسَب بين الله وإسرائيل، بل بينهُ تعالى والإنسان بحسب الجسد ولا يستثنى من ذلك إلاَّ نعمتهُ الإلهية ومبدأ النسبة الجديدة السماوية بالإيمان، غير أن يسوع مسيا الموعود بهِ لإسرائيل الإله الذي ظهر في الجسد الرجاء الأخير للإنسان الحال على الأرض كان قد رُفض فانقطعت العلاقة بين الله والإنسان. أيستطيع أحد أن يطلب مجدًا على أرضٍ شريرة كهذه؟ فما هي إذًا الأخلاق والصفات المُلائمة تلميذ المسيح؟ الجواب: الاتضاع. مَنْ أراد أن يكون أولاً فليكن خادمًا للجميع. ثم أخذ ولدًا وأقامهُ في وسطهم، وقال: «مَنْ قَبِلَ واحدًا من أولاد مثل هذا باسمي يقبلني، ومَنْ قبلني فليس يقبلني أنا بل الذي أرسلني». فاسم المسيح إنما هو محور الدائرة والأمر العظيم الكلي الأهمية بالإيمان.
38 فَأَجَابَهُ يُوحَنَّا قِائِلاً:«يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِدًا يُخْرِجُ شَيَاطِينَ بِاسْمِكَ وَهُوَ لَيْسَ يَتْبَعُنَا، فَمَنَعْنَاهُ لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُنَا». 39 فَقَالَ يَسُوعُ:«لاَ تَمْنَعُوهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُوَّةً بِاسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعًا أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرًّا. 40 لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا. 41 لأَنَّ مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِاسْمِي لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ. 42 «وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي، فَخَيْرٌ لَهُ لَوْ طُوِّقَ عُنُقُهُ بِحَجَرِ رَحًى وَطُرِحَ فِي الْبَحْرِ. 43 وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ، إِلَى النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ. 44 حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 45 وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ رِجْلاَنِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ فِي النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ. 46 حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 47 وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ عَيْنَانِ وَتُطْرَحَ فِي جَهَنَّمَ النَّارِ. 48 حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ. 49 لأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمَلَّحُ بِنَارٍ، وَكُلَّ ذَبِيحَةٍ تُمَلَّحُ بِمِلْحٍ. 50 اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلكِنْ إِذَا صَارَ الْمِلْحُ بِلاَ مُلُوحَةٍ، فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ؟ لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ، وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا». (عدد 38-50).
نرى هنا توبيخًا على أمر لم يكن في نفسهِ إلاَّ محبة، وإن كانت ليست من باب اللطف والرقة بل بدت بمظاهر الخداع ولاحت كأن الغاية منها مجد المسيح. فإن المحبة بذاتها ليست بأمر قويم فهي تصبو للمُحافظة على مجد اسم المسيح إذا استطاعت الاقتران بهذا المجد، فقد قال التلاميذ: «رأينا واحدًا يُخرج الشياطين باسمك وهو ليس يتبعنا فمنعناهُ». لاحظوا هنا ضمير المُتكلمين فإنهُ يُنبئ عن محبة الذات تحت ستر المكر والدهاء، على أن ذلك الدهاء أمر مُخطر وخيم العواقب وهو بالحقيقة أصل الغيرة المذهبية التي يمكن أن تحملنا على أن نغار لمجد المسيح وأفكارنا ليست مُخلصة، بل ممزوجة ببعض أشياء لا تُناسب ذلك وإن كان فينا جوهر المحبة. فمن الجهة الواحدة تحب نجاح خدمة الرب، وأما من الأخرى فيسيء علينا نجاحها عن يد مَنْ ليس معروفًا أنهُ معنا. نريد أن النجاح يُحسب لنا ولجماعتنا، كقول التلاميذ: «يا مُعلم رأينا واحدًا يُخرج شياطين باسمك وهو ليس يتبعنا. فمنعناهُ لأنهُ ليس يتبعنا». غير أن جواب الرب يُبين كيف رَفضهُ العالم رفضًا مُطلقًا، فقال: «مَنْ ليس علينا فهو معنا». فإن العالم بأسرهِ كان في حالهِ الطبيعية عدوًّا للمسيح وما زال كذلك، فلا يستطيع أحدٌ صنع المُعجزات باسمهِ ويتكلم عليهِ سوءًا أو يستخف بهِ سريعًا. فاسم المسيح إنما هو الشيء الجوهري للمؤمن الحقيقي فلنحذر من هذه الكلمة السيئة وهي نحن ونحن.
ولكن ما أقطع هذه الشهادة على حال الإنسان وعلى عِدوانهِ الداخلي للإله المُعلن بالمسيح، فإن مَنْ ليس عليهِ فهو معهُ!. يعني أن الانفصال بين الله والعالم قد تأكد واتضح إلى هذا المقدار حتى أن كل مَنْ لا يقوم ضد المسيح فهو بالتبعية معهُ؛ لأنهُ لا يمكن لأحد أن يكون على الحيادة. فيترتب على ذلك نتائج خطيرة أولها أن محبة الإنسان للمسيح وإن كانت قليلة وتلُّقهُ بهِ زهيدًا، بل إذا حفظ في قلبهِ ذلك الاسم الطاهر فلا ينساهُ الله ولا يرفضهُ. فما أقطع هذا التمثيل وأفعلهُ للدلالة على صبر المسيح ولطفهِ، حتى وضع نفسهُ واحتمل رفض الإنسان وازدرائه!ِ ومع ذلك لم ينسَ أقل علامة من وداد تابعيهِ ورغبتهم في مجدهِ. ثم نرى في ذلك نتيجة ثانية وهي أن السيد لا يُريد أن يُحتقر ولد صغير ممن يؤمن بهِ، بل يعتبر أولئك الأولاد؛ لأن قلوبهم تعترف باسمهِ وتؤمن بهِ، ومن ثمَّ نرى لهؤلاء قيمة عظيمة لدى الله. فالويل لمَنْ يحتقر ويرذل مثل هؤلاء أو يضع معثرة في سبيلهم فإن الأفضل لذلك الإنسان أن يغرق في لُجة البحر. على أن الأمر بالنظر إليهم يتعلق كل التعلق على أمانة المسيح ولهذا السبب يعوزهم التحرُّر من كل الأشياء التي تفصلهم عن المسيح وتقودهم إلى الخطية وتؤدي إلى ارتداد القلب داخليًا وارتدادهِ الظاهر أيضًا. وعندي أن الله يحفظ خاصتهُ، ولكنهُ لا يحفظهم إلاَّ بحملهم على الطاعة لكلمتهِ. والصغار هنا هم الصغار حقيقةً الذين لهم إيمان بالمسيح.
ومن الأمور الواجبة علينا إنما هي إتباع المسيح ولو مهما كلفنا ذلك. فإذا أعثرتنا العين وجب علينا قلعها، أو اليد فُرِض علينا قطعها. والخُلاصة يجب علينا نبذ أثمن الأشياء وأكرمها في هذا السبيل؛ لأن البركات الأبدية مع المسيح أفضل من المُحافظة على اليد اليُمنى والمصير إلى عذاب أبدي، حيث دودهم لا يموت والنار لا تُطفاُ وفضلاً عن ذلك نرى أن الله يضع كل الأشياء تحت الامتحان. كقولهِ: «لأن كل واحد يُملح بنار وكل ذبيحة تُملح بملح». فإن نار دينونتهِ تُطلق على الجميع على القديسين وعلى الأثمة. أما القديسون فتُنقيهم من الأدران والأوساخ في سلوكهم هنا في العالم لكي يتألق الذهب الصافي ببهائهِ الحقيقي، وأما الأثمة فتنصب عليهم نار الله والآلام الأبدية طبقًا لقضائهِ العادل، فهي النار التي لا تُطفأُ. وأما قولهُ: «كل ذبيحة تُملح بملح». فهذا يُشير إلى ما ورد في (اللاويين 13:2) فإن الملح كناية عن قوة الروح القدس ليس لإنشاء النعمة فينا فقط، بل لحفظنا من كل ما هو غير طاهر وإيجاد القداسة في قلب مُتعلق بالله، وذلك الروح يقرننا مع الله اقترانًا حيًّا عمليًّا في جميع تصرُّفاتنا ويجعلنا نتجنب كل ما يُخالف قداستهُ ونتأثر كل ما يُرضيهِ. فيطلب منا إذًا أن نحفظ هذه الحقيقة في قلوبنا وأن يستضئ داخلنا بنور حضرتهِ، وأن نقضي بهذه الواسطة على كل ما هو مكنون في سرائرنا.
ثم لاحظوا أيضًا أن المؤمن إنما هو الذبيحة الحقيقية المقدمة لله، كما قال الرسول: «فأطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مقبولة عند الله عبادتكم العقلية» (رومية 1:12). فهنا نرى الذبيحة الحقيقية وما هي إلا العبادة العقلية. فهذه النعمة المقدسة فضلاً عن أنها تحفظنا من كل ما هو شرير ونجس تؤثر في داخلنا بسطوتها الصالحة، فيصبح المسيحي المفعم من هذه القداسة العملية شاهدًا للمسيح في هذا العالم الفاسد. هذه دعوتنا، ولكن إذا كنا لا نحافظ على قداسة السلوك نصبح شهود زور حيث نُشاكل هذا الدهر الرافض سيدنا ويظهر كأن الاتفاق بينهما من الأمور الممكنة، غير أننا نُظهر نفاقنا، كقول الرب: «الملح جيد ولكن إذا صار الملح بلا ملوحة فبماذا تصلحونهُ، ليكن لكم في أنفسكم ملح وسالموا بعضكم بعضًا». فهو يرغب في أن نبذل الجهد لتفوز نفوسنا لدى الله بالقداسة في سلوكنا وسيرتنا وتعتلن كذلك لدى العالم. فينبغي أن نقضي بأنفسنا على كل ما يخفض وضوح هذه الشهادة وطهارتها، وأن نسلك مع الآخرين بالسلام، وأن يسود علينا هذا الروح في نسبتنا وعلاقتنا معهم.