الله يسمح بالشرّ ليؤسِّس لخيرٍ ما:
لا بدّ من الإشارة إلى كون الصّلاح ليس دائماً ما نظنّه صلاحاً.
يُنذرنا الكتاب المقدّس:
"لا تَحكُموا حَسَبَ الظّاهِر بَلِ احْكُموا حُكماً عادِلاً" (يوحنا 7: 24).
وغالباً ما يطلب الإنسان مسرّته على طريقته،
وإنْ لم يحقّقها يَظنّ أنّ شرّاً ما قد حصل (يعقوب 4: 3).
والله غالباً ما يأمر بالشرّ ليؤسِّس لخيرٍ حقيقيّ على أساس سليم.
فالخير يجب أن يؤسَّس على إرادة الله وصلاحه وليس على ما نظنّه خيراً وصلاحاً.
وهكذا يُحوِّل الله الأمور الشرّيرة إلى خير مُفيد للإنسان،
كما يقول الرّسول بولس:
"كلّ الأَشياء تَعمَلُ مَعاً لِلخَير للّذينَ يُحبّونَ الله ... ليَكونوا مُشابِهينَ صورَةَ ابنِه"
(رومية 8: 28 – 29)،
هذا هو الخير الّذي يقصده الله، وليس الغِنى والشّهوة والملذّات الّتي يطلبها الإنسان.
ليس الخير الوقتيّ بل الخير الطّويل الأمد.
فالإنسان ليس الحَكَم الأفضل لخيره ومستقبله،
إنّما الله هو الحَكَم وهو يُريد أن يُحسِّن صورة الإنسان ويجعله أكثر شَبَهاً بيسوع.
فالألم والشرّ هما كالإزميل في يد النّحّات أو كالأدوات الحادّة في يد طبيب التّجميل
الّذي يَكسِر ويَجبِر ويَعصِب ويَشفي، ليظهر الإنسان أكثر جمالاً.
قال أيّوب عن الله:
"لأنَّه هوَ يَجرَحُ ويَعْصِب. يَسحَقُ ويَداهُ تَشفِيان" (أيوب 5: 18).
وفي الواقع يدفعنا الشرّ (أيُّ مُصاب) لنُحِبّ أفراد عائلتنا وأصدقاءنا
ونتقرّب منهم ونتعاطف معهم ونُضحّي من أجلهم أكثر.
فالشرّ الحاصل يقودنا لخدمة الغير.
من أجمل مشاهد الإنجيل مشهد الرّجال الأربعة الّذين تعاونوا
ونَقَبوا السّطح ليُوصلوا المفلوج إلى المسيح كي يَشفيه
(مرقس 2: 3-4).
كما أنّ الألم وتأثيره قد يطولان.
والحقّ يُقال إنّ بعضهم لا يقدر أن يحتمل إلى النّهاية.
لكنْ مَنْ يَحتمل إلى النّهاية يتمتّع بالآثار الإيجابيّة المبارَكة.
لقد تألّم يوسف الصّدّيق كثيراً من إخوته الّذين حَسَدوه وكَرِهوه وباعوه ليموت في الغربة،
إلاّ أنّ الله قصد بهذا الألم الشّديد خيراً له ولهم كما برهنت الأيّام فيما بعد
(تكوين 50: 20).
الله يسمح بالشرّ ليتمجَّد هو :
نحن ميّالون إلى الظّنّ بأنّ كلّ شرّ يحصل هو بسبب خطيّة ارتكبها الإنسان.
لكنّ الأمر ليس كذلك.
فهناك شرور يسمح الله بها ليتمجَّد من خلالها،
كما أجاب يسوع عندما سأله تلاميذه عن إنسان أعمى منذ ولادته:
"يا مُعَلِّم، مَنْ أَخطَأَ: هَذا أمْ أبَواهُ حَتَّى وُلِدَ أعمَى؟ أجابَ يَسوعُ:
لا هَذا أخْطَأَ ولا أبَواهُ، لكِنْ لِتَظهَرَ أعمَالُ الله فيهِ" (يوحنا 9: 2- 3).
في أحوال كهذه يسأل الإنسان:
"لماذا يا ربّ سمحتَ بذلك؟ لماذا يا ربّ سمحتَ بولدٍ مانغوليّ؟
لماذا يا ربّ سمحتَ بولد مريض أو أعمى؟"
ما هو سبب وجود نفسيّة تبحث عن الخطيّة أو الذّنب، وذَنْب مَنْ هذا؟
إنّ السّبب لا يَقَع على أحد.
فالأهل لا يُلامون ولا المريض ولا حتّى المجتمع.
ففي هذه الحالة لا وجود لخطيّة عملها أبواه.
وهنا يُطرَح السّؤال: هل يُلام الله إذاً؟
عندما يُمطِر الله بركاته على الأبرار والأشرار معاً، هل يتذمّر أحد ما؟
إذاً لماذا نتفاجأ عندما تقع آثار الخطيّة الأولى على الأبرار والأشرار؟
هذه الأمور ستحصل ليتمجّد الله من خلالها، وبالتّالي ليستفيد الإنسان.
لذا، دعونا ننظر إلى ما هو أبعد من المصيبة أو الشرّ الحاصل لنرى مجد الله.
يقول بولس الرّسول:
"لأنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنا الوَقتِيَّة تُنشِئُ لَنا أكثَرَ فَأكثَرَ ثِقَلَ مَجدٍ أَبَديّاً.
ونَحنُ غَيرُ ناظِرينَ إلى الأَشياءِ الّتي تُرى، بَلْ إلى الّتي لا تُرى.
لأنَّ الّتي تُرى وَقتِيَّةٌ، وأمّا الّتي لا تُرى فَأبَديّةٌ."
(2 كورنثوس 4: 17-18).
ليَكن عندنا يقين الإيمان بأنّ الله يُظهِر، بعد عبور الشرّ،
رحمته على النّاس، كما تَظهَر أشعّة الشّمس بعد الغيوم المُلبّدة والعواصف الشديدة،
فتَظهَر المروج الخضراء وبركات الطّبيعة.
نعم يَحقّ لله، كخزّافٍ له سلطانٌ على الطّين،
أن يصنع من كتلةٍ واحدةٍ إناءً للكرامة وآخر للهوان،
وأن يُعيد تشكيل الطّين كما يشاء لكي "يُبيّن غِنى مَجدِهِ على آنِيَة رَحمَةٍ قد سَبقَ وأعَدَّها لِلمَجد"
(رومية 9: 22-23).
لقد عانى بولس الرّسول كثيراً من الأمراض الجسديّة
ومن عَداء الأعداء وخِيانة الأصدقاء وكافّة صعوبات الحياة، إلاّ أنّه آمن دائِماً:
"أنَّ آلامَ الزَّمانِ الحاضِرِ لا تُقاسُ بِالمجْدِ العَتيدِ أنْ يُستَعلَنَ فينا" (رومية 8: 18).
الله يسمح بالشر ليُعلِن لنا أنّ زماننا على الأرض وقتيّ
لو كانت كلّ الحياة خيراً لما كان أحد يتمنّى تركها.
الشرّ الكائن في العالم يقول لنا إنّ عمرنا ينتهي.
فعندما نتألّم نعرف أنّنا لا ننتمي بشكل أبديّ إلى هذه الأرض الفانِية.
وكلّما اشتدّ الألم تمنّينا الانعتاق منه (رومية 8: 23).
كذلك كلّما تقدّمنا في الحياة عرفنا أنّ وقت خلع مسكننا الأرضيّ قد اقترب
(2 بطرس 1: 14).
يسمح الله لدورة الحياة بأن تعبر فينا من وقت إلى آخر في أيّام مُظلِمَة،
كأن يُواجِه البيت مشاكل زوجيّة وعائليّة وماليّة حادّة،
أو أن تحلّ بنا أمراض وكوارث متلاحقة لا مفرّ منها،
أو أن يمرّ ملاك الموت على عائلة فيحصد منها عدداً من النّفوس في فترة زمنيّة قصيرة.
عندها يُفكّر الإنسان بواقعيّة لم يعرفها طوال أيّام الرّخاء والسّعادة.
فيتيقّن أنّ عمره لن يطول على الأرض، ويعترف بأنّه دخل العالم عُرياناً
ويخرج منه عُرياناً لا يأخذ بيده شيئاً من كلّ تعبه في الحياة (أيوب 1: 21).
فوَقفَة تأمّل في الوجود تقود الإنسان ليعرف أنّ الشرّ قد خدمه
وأنّه ليس سوى غريب في هذه الأرض، فيبدأ في التّفكير بحياته الأبديّة.
إنّ معرفتنا لقصر أيّامنا على الأرض النّاجم من اختبارنا للشرّ،
تقودنا أيضاً لنعرف أنّ الشرّ هو أيضاً وقتيّ، فلا يعود يُزعجنا أمره
وكأنّه يجثم على رؤوسنا إلى الأبد. فنتسلّح بالإيمان والرّجاء مُحتَمِلين الشرّ
إلى أن يعبر بدون تذمّر من الله. وهكذا نفهم ما قاله أيّوب لزوجته المتذمّرة،
الّتي طالَبَته بأن يَلعَنَ الرّبّ ليُميته ويُريحه من آلامه:
"أَالخَيرَ نَقبَلُ مِن عِندِ اللهِ، والشرَّ لا نَقبَلُ؟" (أيوب 2: 10).
وإذ نُدرك أنّ عمرنا لا بُدّ أن ينتهي وأنّ الشرّ بدوره محدود، نتشجّع،
ونحن نعبر في دنيا الشّرور، على أن نُصلّي صلاة
"يعبيص" الّذي طلب من الرّبّ: "لَيتَكَ تُبارِكُني، وتُوَسِّع تُخومي،
وتَكونُ يَدُكَ مَعي، وتَحفَظُني من الشرِّ حتَّى لا يُتعِبُني.
فأَتاهُ الله بِما سَأَلَ" (1 أخبار 4: 10).
من الضروريّ أن يتذكّر المؤمن أنّه غير مدعوّ إلى أن يحيا حياة الآلام المُستَمرَّة،
فالمسيح يسوع جاء ليكون له حياة، وحياة أفضل.
الله يسمح بالشر ليُعيدنا إليه :
غالباً ما يستخدم الله الشرّ ليقرّبنا إليه.
فبسبب تقسّينا وانشغالاتنا في الحياة، لا بدّ من مُحرِّض لنا يدفعنا إلى أن نعود إلى الرّبّ.
وكثيراً ما يكون هذا المُحرّض هو الشّرّ.
الشّرّور الّتي تقسو علينا تعلّمنا أنّنا لا نقدر على الاستمرار في الخطيّة بعيدين عن الرّبّ.
ومَنْ يَقرأ الكتاب المقدّس يعرف أنّ الله يقسو علينا أحياناً ليُعيدنا إليه.
يوجِّه الرّبّ دعوته إلى النّاس قائلاً لهم:
"اِغتَسِلوا. تَنَقَّوا.
اعزِلوا شَرَّ أعمالِكُم مِن أَمامِ عَيْنَيَّ. كُفّوا عَن فِعلِ الشَرِّ. تَعلَّموا فَعلَ الخَيرِ"
(إشعياء 1: 16-17).
فالله يُريد أن يَترك النّاس الشرّ وهو على استعداد ليُساعدهم على التّخلّص منه ومن آثاره.
يقول بولس الرّسول:
"فَتُوبوا وارجِعوا لتُمحَى خَطاياكُم، لِكَي تَأتي أوقاتُ الفَرَجِ مِن وَجهِ الرَّبّ ...
فالله يُبارِكَكُم بِرَدِّ كلِّ واحِدٍ مِنكُم عَن شُرورِهِ" (أعمال 3: 19 و 26).
وعَظَ بطرس الرّسول بأنّ الله لا يُريد أن يَهلِكَ النّاس،
بلْ أن يُقبِلَ الجميع إلى التّوبة (2بطرس 3: 9).
المؤسف أنّ معظم النّاس يغرقون في شرّ أعمالهم ويتألّمون بسببها،
وغيرهم كثيرون يتعذّبون بشرور الدّنيا،
ومع هذا لا يتمسّكون بالمسيح "كمِرساةٍ للنّفسِ مؤتَمَنةٍ وثابِتةٍ"
(عبرانيّين 6: 19).
وللأسف، إنّ بعضهم الآخر مِمَّن يتألّمون
"من أوجاعهم ومن قُروحِهم"، كما يقول سفر الرّؤيا،
يزدادون رفضاً وكُفراً وتجديفاً من دون "أن يتوبوا ليُعطوه مجداً"
(رؤيا 16: 9، 11).
ليت القارئ العزيز،
وكلّ مَنْ يتألّم من أيّ شرّ، يتعرّف بالرّبِّ ويَسْلَم، فيأتيه به خيراً
(أيوب 22: 21).
نجد أنّ وقت الشرّ هناك فرصة حقيقيّة وصحيحة لاختبار
نعمة الرّبّ المُخلِّصة والحافظة لنفوسنا، لئلاّ يقرب الشرّ منها
(مزمور 91: 7).
من الضّروريّ أن تُفكّر بمصيرك الأبديّ أكثر من الشرّ الوقتيّ.
لا يجوز أن تُضحّيَ بالأبديّ على مذبح حلّ أرضيّ وقتيّ وزائل.
إنّ صلاة توبة صادقة، فيها يطلب الإنسان من الرّبّ أن يُخلِّصه،
تقوده إلى رحاب حياة أبديّة لا حزن ولا موت ولا دموع فيها.
تسليم كامل وجدّي للرّبّ يسوع المسيح يُحوّل الحزن إلى ابتهاج وفرح مجيد،
كما يقول الرّسول بطرس:
"الّذي بهِ تَبتَهِجونَ، مَع أنَّكُم الآنَ – إنْ كانَ يَجِب –
تُحزَنونَ يَسيراً بِتَجارِبَ مُتَنوِّعَةٍ، لِكَي تَكونَ تَزكِيَةُ إيمانِكُم،
وهيَ أَثمَنُ مِنَ الذَّهَبِ الفاني، معَ أنَّهُ يُمتَحَنُ بالنّارِ،
تُوجَدُ لِلمَدحِ والكَرامةِ والمَجْدِ عِندَ استِعلانِ يَسوعَ المسيحِ"
(1بطرس1: 6، 7).