الكنائس اللاتينية في القسطنطينية: (1052)
وبينما كان البطريرك المسكوني وحاشيته وأصدقاؤه وأعوانه بضطرمون بهذا الروح الوثاب وهذه الخلال الأرثوذكسية النقية كان بريد إيطاليا يحمل إلى العاصمة الشرقية بين آونة وأخرى أنباء التوسع اللاتيني في الأبرشيات الإيطالية الأرثوذكسية وضغط النورمنديين على الكنائس الأرثوذكسية التي كانت قد دخلت في حوزتهم. ومما زاد في الطين بلة أن أرجيروس ممثل الروم في إيطاليا كان يجادل البطريرك المسكوني في أمر الفطير ويدافع عن وجهة نظر اللاتين. فلما قاربت السنة 1052 نهايتها أوجب البطريرك المسكوني على جميع الكنائس اللاتينية في القسطنطينية ممارسة الأسرار والطقوس وبموجب التقليد اليوناني الأرثوذكسي.
فامتنعت هذه الكنائس فأمر البطريرك بإغلاقها. وليس من العلم أن نقول مع بعض المؤرخين أن نيقيفوروس أحد رهبان البطريركية المسكونية أخذ القربان المحفوظ في كنيسة لاتينية ورمى به إلى الأرض وداسه زاعماً أنه غير مقدس. فهو قول ينفرد به هومبروتو وينقصه الشيء الكثير من العدالة والضبط.
رسالة لاون اخريدة:
في ربيع السنة 1053 كتب لاون متروبوليت أخريدة ورئيس أساقفة بلغارية إلى السينكلوس يوحنا أسقف تراني في جنوب إيطاليا ونائب البطريرك المسكوني فيها يوجب تجنب البدع الغربية كاستعمال الفطير وصوم السبت وأكل الدم المخنوق وغير ذلك ويوضح وجوه الخطأ فيها. ثم يرجو إطلاع أساقفة الأفرنج على مضمون رسالته ويود لو أن البابا الجزيل الاحترام يحيط علماً بها أيضاً. وجاءت لهجة لاون قاسية عنيفة كقوله: "من يصوم السبت ويقدس على الفطير ليس يهودياً ولا وثنياً ولا مسيحياً وإنما هو شبيه بجلد النمر المرقط" فأثارت الكره والحقد والشقاق.
ووصلت رسالة لاون في أتعس الأوقات. فالنورمنديون كانوا قد فضوا على مقاومة ارجيروس في شباط السنة 1053 وكانوا قد أسروا البابا لاون التاسع في حزيران السنة نفسها وأجبروه على الإقامة في بنيفنتوم. وشاء سكرتير هذا البابا هومبرتو مورموتييه Humbert de Mourmoutiers كاردينال سيلفة كانديدة Silva Candida أن يتصل بسيده فأذن له النورمنديون بذلك. فرأى أن يذهب أولاً إلى أبولية ليتصل بارجيروس فمر بمدينة تراني واتصل بأسقفها. فأطلعه هذا على الرسالة التي وجهها إليه لاون أخريدة. فقرأها ونقلها إلى اللاتينية وتوجه إلى بنيفنتوم فأطلع سيده عليها.
ويرى رجال الاختصاص أن هومبرتو أساء الترجمة وأنه كان يكره اليونانيين وكنيستهم فأهمل ودسَّ فجاءت ترجمته أشد عنفاً وأسوأ أثراً من الأصل اليوناني. ومن دسائسه أنه أضاف اسم البطريرك المسكوني إلى الرسالة فجعلها تصدر عنه وعن رئيس أساقفة بلغاريا. ومن هنا قول البطريرك المسكوني إلى بطريرك أنطاكية أنه لم يخاطب البابا ولم يكتب إلى أي أسقف في الغرب في موضوع الفطير وأن اللاتين "فضوليون قليلو التبصر يحبون الكذب". وكان لاون التاسع لايزال يجهل اليونانية فاعتمد ترجمة هومبرتو واستشاط غيظاً وأمر بالرد عليها.
رد لاون التاسع:
وأمر البابا بالرد على رسالة لاون أخريدة برسالتين توجه إحداهما إلى "الأسقفين" ميخائيل القسطنطينية ولاون أخريدة وتترك الثانية بدون عنوان وترد التهم الموجهة إلى الكنيسة اللاتينية.
وأعد هومبرتو هاتين الرسالتين فاستهل الأولى بالرغبة في السلام ولكنه ملأها بعبارات الصلف والترفع والاستمساك بالرئاسة. وهدد بامتيازات روما واعتبر "الأسقفين مخيائيل ولاون" أحمقين لأنهما تجاسرا فحكما على السدة الرسولية التي لا يستطيع أحد من المئتين أن يحاكمها. ولكي يؤيد هذه السلطة ذكر منحة قسطنطين إلى سيليفستروس ورأى فيها أمراً إليهاً مصدقاً من المجمع المسكوني الأول. ونصح إلى هذين "الأسقفين" أن يندم كل منهما على ما فعل وأن يرجع عن الطريق التي مشى فيها لئلا يصبح في الآخرة من جملة المسحوبين بذنب التنين الذي جرّ ثلث كواكب السماء.
وضم هومبرتو إلى هذه الرسالة نسخة منحة قسطنطين "لكي لا يرتاب أحد في أن سيادة روما على الأرض لم تؤسس على الخرافات والخزعبلات وإنما صدرت عن قسطنطين نفسه الذي رأى أن خضوع صاحب السلطات السماوية للسلطات الأرضية غير لائق"!.
والواقع الذي لا مفرّ من الاعتراف به هو أن منحة قسطنطين هذه التي احتج هومبرتو ولاون بها هي وثيقة مزورة صنفت في القرن الثامن لتدعيم سلطة روما. وهو أمر يجمع عليه رجال الاختصاص من كاثوليكيين غربيين وبروتستانتيين وأرثوذكسيين.
توسط السنكلوس:
ولمس الستراتيجوس ارجيروس درجة الإساءة التي شعر بها البابا لاون لدى إطلاعه على رسالة لاون أخريدة فاتصل بالسنكلوس يوحنا أسقف تراني وبحث تطورات الموقف معه فرأى الاثنان معاً أن المصلحتين السياسة والدينية تقضيان بتلافي الأمر وتدارك الخطر قبل وقوعه فقام يوحنا إلى القسطنطينية وأكد للبطريرك المسكوني أن البابا رجل نجيب فاضل عاقل وأن التعاون معه ضروري لمصلحة الروم في إيطاليا.
وكان البطريرك شديد الثقة بالسنكلوس لا يشك في ولائه فكتب إلى زميله الروماني كتاباً رقيقاً أوضح فيه رغبته في الوئام والاتفاق ورجاه أن يذكر اسمه في ذبتخية روما مقابل ذكر البابا في ذبتيخة القسطنطينية. ولكنه حيا زميله الروماني أخاً لا أباً ووقع بصفته بطريركاً مسكونياً. وكتب الفسيلفس أيضاً كلاماً لطيفاً دعا به الحبر الروماني إلى التعاون المخلص في الحقل السياسي. وقد ضاع نص هاتين الرسالتين ولم يبقَ منهما سوى ما جاء عنهما في رد البابا وما أشار إليه البطريرك المسكوني في رسائله إلى بطرس الثالث بطريرك أنطاكية.
وعاد هومبرتو فيما يظهر إلى الدس والإفساد فإنه جعل البطريرك المسكوني يقول بأنه يقابل ذكر اسمه في ذبتيخة روما بذكر اسم البابا في جميع كنائس العالم in toto orbe terrarum. ولعل البطريرك المسكوني استعمل اللفظ اليوناني "المسكوني" بمعناه البيزنطي أي في جميع كنائس الأمبراطورية فهال البابا هذا الكلام بلفظه اللاتيني وأضرم غيظه. وكان قد أضعفه المرض فوكل أمر الرد إلى هومبرتو وليته لم يفعل!..