سير القديسين والشهداء في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية
"انظروا إلى نهاية سيرتهم؛ فتمثلوا بإيمانهم" (عب7:13)
القديس الأنبا أبرآم الأسقف *
سمع الكاتب الإنجليزي ليدر وهو في فرنسا عن أسقف مصري قديس،
فأسرع بالسفر إلى مصر مع زوجته ليلتقيا به، وقد سجل لنا فصلًا كاملًا عن حياته،
جاء فيه: "هذا القديس الشيخ عرفه العالم الشرقي كله،
وأدرك أنه الخليفة المباشر لسلسلة المسيحيين الأولين غير المنقطعة".
وعبرت زوجته عن هذا اللقاء بقولها: "كنا في حضرة المسيح وامتلأنا بروح الله".
نشأته:
وُلد هذا القديس في جالاد التابعة لإيبارشية ديروط عام 1829 م.
من أبوين تقيين، وكان اسمه بولس غبريال، وقد حفظ المزامير ودرس الكتاب المقدس منذ طفولته،
وإذ التهب قلبه بحب الله دخل دير السيدة العذراء مريم "المحرق"
حيث رُسم راهبًا باسم بولس المحرقي عام 1848 م.
ولما دعاه الأنبا ياكوبوس أسقف المنيا للخدمة حوّل المطرانية إلى مأوى للفقراء،
وبقى أربعة أعوام رُسم فيها قسًا عام1863.
ولحبه في الرهبنة عاد إلى ديره حيث اختير رئيسًا للدير،
فجاءه شبان كثيرون للتلمذة على يديه بلغ عددهم أربعون راهبًا.
لكنه إذ فتح باب الدير على مصراعيه للفقراء وسكب كل إمكانيات الدير لحساب
أخوة المسيح ثار البعض عليه وعزلوه عن الرئاسة وطلبوا منه ترك الدير.
طُرد أبونا بولس وتلاميذه بسبب حبهم للفقراء فالتجأوا إلى دير السيدة العذراء "البراموس"
بوادي النطرون، وهناك تفرغ للعبادة ودراسة الكتاب المقدس.
وفي عام 1881 رُسِمَ أسقفًا على الفيوم وبني سويف والجيزة باسم الأنبا ابرام،
فحوّل الأسقفية إلى دار للفقراء.
صديق للفقراء:
خصص الأسقف الدور الأول من داره للفقراء والعميان والمرضى وكان يرافقهم أثناء طعامهم اليومي
ليطمئن عليهم بنفسه. وكان إذا دخل عليه فقير مدّ يده تحت الوسادة ليعطيه كل ما يملك وأن لم يجد يعطه
"شاله" أو "فروجيته".... وله في ذلك قصص مذهلة.
مطرانية في السماء:
جاء عنه أن أعيان الايبارشية رأوا المطرانية غير لائقة فاتفقوا معه على تجديدها وتوسيعها.
وكانوا كلما جمعوا مبلغًا من المال يسلمونه له.
أخيرًا جاءوا إليه يطلبون إليه موعدًا للاتفاق مع المقاول على شروط البناء،
فتطلع إليهم قائلا: "لقد بنيت يا أولادي!!... لقد بنيت لكم مسكنًا في المظال الأبدية".
استغلال عطفه:
من الروايات المتداولة بين معاصريه أن ثلاثة شبان أرادوا استغلال حبه للفقراء
فدخل اثنان منهم يدّعيان أن ثالثهم قد مات وليس لهم ما يُكفنانه به،
فلما سألهم الأب الأسقف: "هو مات؟!"، فأجابوا: "نعم مات".
ثم هزّ الأسقف رأسه ومدّ يده بالعطية قائلا: "خذوا كفّنوه به".
وخرج الاثنان يضحكان: لكن سرعان ما تحول ضحكهما إلى بكاء عندما نظرا ثالثهما قد مات فعلًا.
رجل الصلاة:
ذكر كثيرون ممن باتوا في الحجرة المجاورة لحجرته أنه كان يقوم في منتصف الليل يصلي
حتى الفجر بالمزامير، وكان يقف عند القول: "
قلبًا نقيًا أخلق فيّ يا الله وروحًا مستقيمًا جدده في أحشائي"،
مرددًا إياها مرارًا بابتهالات حارة.
وقد شهد الجميع أن صلاته كانت بروح وعزيمة قوية حتى في شيخوخته.
(ستجد المزيد عن هؤلاء القديسين هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام السير والسنكسار والتاريخ).
قال مستر ليدر: "لم أسمع قط في حياتي صلاة كهذه،
إذ أحسست بالصلة التي له بعرش النعمة التي تملأ الإنسان استقرارًا دائمًا.
لقد بدا لي أن الأرض تلاشت تمامًا لكي تترك هذا الرجل في حضرة الله نفسه يتحدث معه بجلاء".
إننا لا نبالغ إن قلنا أن مئات بل آلاف المعجزات تمت على يدي هذا الرجل وبصلواته.
نسكه:
كان بسيطًا في ملبسه وفي مأكله، يعيش بالكفاف،
ضابطًا نفسه من كل شهوة وفي أحد الأيام اشتاق أن يأكل "فراخًا" فطلب من تلميذه أن يطبخ له ذلك.
فلما أعد له الطعام قدمه، فصلى الأب وطلب منه أن يحضره له في اليوم التالي.
وتكرر الأمر في اليوم الثاني والثالث والرابع دون أن يأكل منه شيئًا حتى فسد الطعام.
حينئذ قال لنفسه: "كلي يا نفسي مما اشتهيت".
اتضاعه:
يقول مستر ليدر: "تضايق عندما ألزمته بركوعي قدامه".
من عادته الجميلة أنه ما كان يسمح لأحد من الشمامسة أن يتلو عبارات التبجيل الخاصة بالأسقف عند
قراءة الإنجيل، ولا كان يميز نفسه عن شعبه بل يجلس على كرسي عادي كسائر أولاده.
وكان يسر بدعوة أولاده له: "أبينا الأسقف"، ولا يسمح لأحد أن يدعوه: "سيدنا".
وعندما زار البرنس سرجيوس "عم نقولا قيصر روسيا" وزوجته مصر عام 1868
وسمعا عن القديس توجها لزيارته، اهتمت الدولة واستقبلته استقبالًا رسميًا،
وحاول أعيان الأقباط أن يشتروا أثاثا جديدًا للمطرانية لكنه رفض نهائيًا.
ولما جاء الزائران وركعا على الأرض والأب جالس يصلي لهما بحرارة قدما له كيسًا
به كمية من الجنيهات الذهبية، أما هو فاعتذر.
وأخيرًا أخذ جنيهًا واحدًا وأعطاه لتلميذه رزق. وقد خرج الأمير من حضرته يقول أنه لم يشعر برهبة
في حياته مثلما شعر بها عندما وقف أمام القديس العظيم الأنبا ابرام.
أسقفًا إنجيليًا:
يقول عنه الأنبا إسيذوروس أنه كان عالمًا في مواضيع الكتاب المقدس إلى درجة حفظه نصوصها عن ظهر
قلب، وقيل عنه أنه كان يطالع الكتاب المقدس كل أربعين يومًا مرة.
وكان يجمع شعبه كل يوم للصلاة مساءً مع دراسة الكتاب المقدس.
إخراج الشياطين:
قال الكاتب الإنجليزي ليدر: "سلطان الأسقف في إخراج الأرواح النجسة جذب إليه كثيرون من أماكن بعيدة
أكثر مما فعلته المواهب الأخرى التي أشتهر بها".
نياحته:
قبيل نياحته استدعى القمص عبد السيد وبعض الشمامسة وطلب منهم أن يصلوا المزامير خارج باب غرفته
وألاّ يفتحوا الباب قبل نصف ساعة.... ولما فتحوا الباب وجدوا الأب قد تنيح في الرب.
ومن المعروف أن الأستاذ سليم صائب حكمدار الفيوم قد نادى زوجته يوم 3 بؤونه (1914 م.)
قائلا: "آه! يظهر أن أسقف النصارى قد مات... انظري الخيول وركابها المحيطين به،
وهم يصرخون "إكئواب، إكئواب"، ثم قام لوقته وقابل أحد المسيحيين وسأله عن معنى كلمة "إكئواب"،
فأوضح له أنها تعني بالقبطية "قدوس" وهي تسبحة السمائيين.
إنه لا يزال ديره بالفيوم إلى يومنا هذا، الذي به رفاته، سرّ بركة لكثيرين.
السيرة من مصدر آخر هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت (*)
ولد عام 1829 بقرية دلجا مركز ملوي مديرية أسيوط آنذاك، من أبوين فاضلين،
وفد له الأنبا يوساب أسقف صنبو الذي رسمه شماسًا، ولما بلغ التاسعة عشره انطلق إلى دير العذراء
بالمحرق ثم سيم راهبًا باسم بولس غبريال المحرقي،
أيام رئاسة القمص عبد الملك الهدرى، الذي أحبه لأخلاقه السامية ونسكه الشديد.
ولما سمع أسقف المنيا الأنبا ياكوبوس بتقواه استدعاه إليه وسلمه إدارة الأسقفية وكلفة بملاحظة الغرباء
والمساكين الذين كانوا يلجأون إلى القلاية، ثم رسم قسًا.
وبعد فتره تاقت نفسه إلى عيشة الدير فرجع وكان الرهبان يحبونه، فطلبوا عزل رئيسهم،
فتقدم الدير في مدة رئاسته، فغرس كرمًا،
ورسم ما تهدم، واشترى له أطيانًا حتى أقبل الكثيرون على الرهبنة فيه،
لدرجة أنه رسم أربعين راهبًا دفعة واحدة، وظل في خدمة الدير خمس سنوات،
وكان يصرف كثيرًا على الفقراء والمحتاجين، محذره الرهبان من خراب الدير إذا ظل هكذا،
إلا أنه استمر في نهجه، حتى زاد عدد هؤلاء الفقراء عن عدد رهبان الدير فطالب الرهبان بعزله،
فوافقهم الأنبا مرقس مطران البحيرة الذى كان يقوم بأعمال البطريرك على عزله،
فخرج من الدير وقد بكاه هؤلاء المعوزين،
ورافقه إلى البطريركية بعض تلاميذه المخلصين منهم الأنبا متاؤس مطران الحبشة،
وأرسل بعد ذلك إلى دير الأنبا بيشوي فيما بعد فقبله ورحب به في قلايته،
وكانا يدرسان معًا الكتاب المقدس حتى حفظ أغلب نصوصه إذ كان يطالعه مرة كل أربعين يومًا
وفى سنه 1888 م. / 1597 ش. اختير أسقفًا للفيوم باسم الأنبا إبرام،
حيث فاحت قداسته، فكان أهم من حوله هم الفقراء والمعوزين،
بل جعل معظم دار المطرانية مأوى لهم وكان يجالسهم ويصرف عليهم كل ما لديه،
وكان لا يأكل إلا معهم، وعين لخدمتهم راهبه كانت تسمى بسيمة،
لاذت به هاربة من وجه البابا كيرلس الخامس بعد عودته من نفيه،
إذ كانت ضمن من وقَّعوا على عَزله، ولكنها أهملت الطبخ فعزلها وأصيبت بالشلل بعد ذلك.
وكانت له مواقف كثيرة في مساعدات الفقراء والمعجزات التي كان يجربها الله على يديه وظل الأنبا إبرام
يقوم بأعباء إيبارشية حتى لحقه المرض في بشنس 1630 ش.،
وكان يشتد عليه وهو صابر متألم، وقد اشتهت نفسه أكل الحمام المحشو،
فاعتبرها تجربة أخيرة له، فأوصى بعمله وتركه حتى أنتن، ووضعه أمامه وجعل يخاطب نفسه "
ها قد أجبت لك سؤالك يا نفسي، فَكُلى مما ستصيرين أنتن منه". ثم رماه بعد ذلك.
وانتقل الأنبا إبرام في شهر بؤونه 1630 / 10 يونيو 1914 ودفن في مدفنه بكنيسة أبي سيفين.