المسيحية دين ودنيا بقلم المطران غريغوار حداد كثيراً ما نسمع من خطباء المساجد:
- أن الإسلام دين ودنيا, بينما المسيحيةهي دين روحاني, لا تهتم بالدنيا, (وبعض المسيحيين يعتقدون الأمر ذاته),
- وأنه "لا رهبانية في الإسلام", بينما الصيغة الفضلى للمسيحية هي الرهبانية, أي الإنقطاع عن الدنيا.
ولكن هذا الكلام فيه:
• فهم مخطئ للمسيحية وللرهبانية
• وخلط بين مفهومين: الدنيا والدولة,
• وخلط بين مفهومين آخرين: الدنيا والشريعة,
* فهم مخطئ للمسيحية والرهبانية
- فالمسيحية لا تتماهى مع الرهبانية:
• المسيحيون ليسوا جميعهم مدعوين ليصبحوا رهباناً وراهبات, بل القلة الضئيلة, "الذين خصوا أنفسهم للملكوت (متى.....)
• المسيحيون مطلوب منهم أن يعيشوا الإنجيل في خضم العالم, بدون الإعتزال, وبدون ممارسة التقشفات الصعبة.
- والرهبانية لا تتماهى مع الإعتزال والتقشّف
• فالرهبان الأوائل كانوا يريدون استبدال الإستشهاد الدموي بالإستشهاد الروحي اليومي, وبالشهادة للإبدية,
• مرّت حقبة من الزمن, كان الرهبان يعتبرون أنفسهم- ويعتبرهم الناس- الأعضاء الوحيدين لكنيسة المسيح, والعائشين بحسب الإنجيل.
• بينما الآن, منذ 60 سنة تقريباً, فقد تكثّف "التكرس في العالم", فيحاول المكرسون والمكرسات أن يعيشوا النذور الثلاثة وباقي وصايا المسيح في المجتمعات, لا سيما الأكثر حرماناً,
• ولكن أهم ما في الرهبانية هو التخصص في المحبة والتفرغ للمحبة,
وقد أشار إلى ذلك القرآن ذاته بقوله عن رسل المسيح: "وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة (أي محبة للبشر) ورهبانية ابتدعوها, ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله" (محبته) (الحديد 27)
- والرهبانية ليست غريبة عن الإسلام
• فإسلام الخلفاء الراشدين كان له متطلباته الأخلاقية السامية جداًّ,
• وإسلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ذو مستوى روحية وإنساني رفيع,
• والصلوات الخمس اليومية هي إحدى عبادات الرهبانية المسيحية, التي يمارسها المسلمون "في العالم", لا في "الدير",
• والطرائق الصوفية المسيحية ( mysticisme),
• ومن الأحاديث التي يرددها خطباء المساجد عن أنصار الرسول أنهم "...
* خلط بين الدنيا والدولة
وعلاوة على الفهم المخطئ للمسيحية والرهبانية, الذي انتشر ولا يزال ينتشر كثيراً في أوساط المسيحيين والمسلمين, هناك أيضاً خلط والتباس بين القولين: "الدين والدنيا" و"الدين والدولة".
- فالمسيحية "دين ودنيا":
• على المسيحي المؤمن حقاًّ أن يلتزم بجميع شؤون "الدنيا", تجاه ذاته وغيره, فردياً وجماعياً, تربوياًّ وثقافياًّ, صحياًّ وبيئياًّ, إجتماعياًّ واقتصادياًّ... والآيات الكتابية كثيرة بهذا الشأن:
"تعالوا, يا مباركي أبي, رثوا ملكوت المعد لكم منذ إنشاء العالم: لأني جعت فأطعمتموني, وعطشت فسقيتموني, كنت غريباً فآويتموني, وعرياناً فكسوتموني, وكنت مريضاً فعدتموني, ومحبوساً فأتيتم إلي" (متى 25:36:34)
فالمؤمن المسيحي ملتزم إذاً قدر إمكانه بجميع شؤون "الدنيا", أي بإطعام الجائع, وإرواء العطشان, وإبداء يجرم تجاه الإنسان وتجاه الله, إذ يقول الرب للمنعجبين لهذا القول:
"كل مرة صنعتم ذلك إلى أحد هؤلاء الصغار (بأعين الناس غير المؤمنين) الذين هم إخوتي, فإلي صنعتموه" (متى 40:25)
"وكل مرة لم تصنعوا ذلك إلى أحد هؤلاء الصغار فلي لم تصنعوه" (متى 45:25)
هذه الأمثلة التي أعطاها المسيح عن مسؤوليات المؤمن به, ليست حصرية, بلا شك, بل هي ترمز إلى جميع حاجات الإنسان الآخر, الجسدية والنفسية والروحية.
في الحضارة الريفية كانت أعمال الإيمان الدنيوية فردية, بسبب العلاقات الفردية في تلك الحضارة. أما في الحضارة المدنية فتصبح أعمال الأيمان جماعية, على الصعد كافة: صعيد الإجتماع والإقتصاد, والبيئة, والسياسة.
وأصبحت المسؤوليات بحسب منهجين أساسيين:
• إما التنمية الشاملة المتكاملة للإنسان والمجتمع,
• وإما التغيير الإيجابي للذهنية الفردية, وللمجتمع كله.
والذي يكتفي بالصدقة الفردية, أصبح واعياً لتقصيرها عن الواجب تجاه "حقوق الإنسان".
والمسيحيون في أيامنا مسؤولون:
• عن الإطلاع على حاجات مجتمعهم, بل حاجات العالم, وإن وسائل الإعلام المتطورة أخذت تسهل له هذا الإطلاع.
• وعن اتخاذ المواقف الواضحة تجاه حالات الظلم والتخلف, لأنه في المسيحية, كما في الإسلام, "الساكت عن الظلم هو شيطان صامت" (حديث شريف). وهنا أيضاً يجد المسيحيون التحاليل المتنوعة في الإنترنت, وعلى صفحات الجرائد,
• وعن توضيح القيم, ومن ثم المقاييس, التي بموجبها يحكمون على الواقع, ويتخذون مواقفهم,
• وعن القيام بالأعمال التي تتطلبها مواقفهم, لئلا يكونوا من جماعات المنظرين, المكتفين بتحاليلهم "الذكية", "والقاعدين" المستقلين من كل جهاد, "صغير أو كبير".
ولكن المسيحية ليست "ديناً ودولة"
فالدولة تتحدد, وتتميز عن دولة أخرى, من خلال نظامها السياسي, ولا سيما سلطاتها التشريعية والإجرائية والقضائية من جهة أولى, والشرائع والقوانين والأنظمة من جهة أخرى, والمؤسسات التطبيقية من جهة ثالثة.
فالمسيحية ليس لها صيغة محددة على هذه الصّعد الثلاثة, لأن المسيح لم يسنّ قوانين وشرائع, ولم يُنشئ سلطات سياسية, لا تشريعية ولا إجرائية ولا قضائية. ومن أقواله المشهورة:
"تعلمون أن زعماء الأمم يسودونهم, والعظماء يتسلطون عليهم. وأما أنتم فلا يكن فيكم مثل هذا. بل من أراد أن يكون فيكم كبيراً, فليكن لكم خادماً, ومن أراد أن يكون الاول, فليكن لكم عبداً,
"كما أن ابن البشر لم يأت ليُخدم, بل ليَخدم (ليصبح خادماً لا سيداً أو ملكاً), وليبذل نفسه فداء عن الكثرة" (البشرية) (متى 25:20-28)
وبعد معجزة إطعام خمسة آلاف نسمة بواسطة خمسة أرغفة وسمكتين, يقول إنجيل يوحنا: "شعر يسوع أنهم (الذين أكلوا) سيأتون لاختطافه, والمناداة به ملكاً, فانسلّ من بينهم, وعاد إلى الجبل وحده" (يوحنا 9:6و15)
"وقال له واحد من بين الجمع: يا معلّم, قل لأخي أن يقاسمني الميراث فقال له: يا رجل, من أقامني قاضياً أو مقسماً؟ (لوقا 13:12و14)
وما قاله لبيلاطس مشهور:
"مملكتي ليست من هذا العالم" (يوحنا 36:18)
مشهور ومفسّر خطأ: أن المسيح لم يطلب من المؤمنين به أن لا يهتموا بشؤون الدنيا, وأن يعيشوا في ملكوت السماوات منذ الآن. فالتفسير المنسجم مع باقي متطلبات المسيح في الإنجيل يوصل إلى الإستنتاجات التالية :
- المسيحي المؤمن لا يكتفي بالإيمان والصلاة, بل هو يلتزم:
• باتخاذ المواقف في حالات الظلم والتخلف...
• وبالقيام بأعمال المحبة التي تتطلبها حاجات الناس,
• وبالإشتراك في الهيآت الإقتصادية والإجتماعية والسياسية, وبالخصوص الهيآت الإنمائية والتشارك بين الهيآت الحكومية وهيآت المجتمع المدني,
- ويقوم المسيحي المؤمن بكل ذلك, انطلاقاً من إيمانه بالله والتزامه بالإنسان, ولكن لا "بإسم المسيح والمسيحية", لا تصريحاً ولا تلميحاً.
• فلا ينشئ أحزاباً مسيحية, بل يدخل في أحزاب علمانية.