يسوع أقنوم في طبيعتين،
والإنسان أقنوم في جوهرين: الروح والجسد.
نحن على صورة يسوع كما أجاد الدكتور عدنان طرابلسي
في رائعته “الرؤية الأرثوذكسية للإنسان”.
يسوع صار إنساناً ليصير الإنسانُ إلهاً.
الغاية الأخيرة من الوجود هي التأله،
بدايةً في الأرض ونهايةً في القيامة العامة،
كما تجلَّى المسيح على الجبل المقدس.
والتأله يصيب الروح أولاً والجسد ثانياً.
فالروح هي التي تقتني الفضائل.
يسوع هو الطريق والحق والحياة. هو حياتنا (كولوسي1:3).
بولس الرسول قال:”لستُ أنا أحيا بل المسيح يحيا فيّ” (غلا 20:2).
المعمدان قال إن عليه أن ينقص وعلى يسوع أن يزداد.
جوهر الحياة الروحية هو نقصان الإنسان أمام طوفان يسوع في وجوده كله،
حتى يبلغ ملء قامة المسيح، في الروح القدس.
بمقدار ما اتخلّى عن ذاتي يتغلغل المسيح فيَّ.
لذلك كان الكفر بالذات مرحلة هامة في طريق الحياة.
المسألة عسيرة: عليَّ أن انخلع من ذاتي لكي أرتدي المسيح.
الطبيعة البشرية متحدة بأقنوم يسوع اتحاداً اقنومياً،
لكي أتحد أنا به ـ لا أقنومياً ـ بل بالنعمة الإلهية.
هذا هو لبّ إيماني:
اتحدَّ يسوع بي لكي أتَّحد أنا به. والباقي نوافل.
بدون يسوع تضحي المسيحية مذهباً في جملة مذاهب.
أما يسوع فهو الإله المتأنس لأجلي لكي اتألّه.
رددت مرة على شخصٍ ذكر بوذا:
“هل بوذا إله متأنس”؟ قال: “لا”.
قلتُ: “المقارنة مستحيلة. الذي يميز المسيحية هو شخص يسوع المتأنس”.
بدون يسوع المتأنّس، بيني وبين الله هوة سحيقة
فلا أستطيع إطلاقاً الاتصال به.
بيسوع صار اللهُ فيَّ ومعي ولي.
وترى لهذا الكتاب تكملة ممتازة في كتابي السابق:
“الظهور الإلهي، الله في المؤمنين”.
ولذلك فالحياة الروحانية هي هذا الوجود عبر يسوع
في الآب والابن والروح القدس.
قال بولس: “…فيه نحيا ونوجد ونتحرك” (أعمال28:17).
يسوع عاش معنا وبيننا،
ثم أعطانا ذاته يوم العنصرة في الروح القدس.
العنصرة هي امتداد التجسد الإلهي.
اعتمد الرسل يومها فلبسوا المسيح.
عاد يسوع إلينا في الروح القدس، لا ليمشي معنا،
بل ليتغلغل فينا،
فهو الباب الذي ندخل ونخرج منه ونجد مرعىً (يو 10)،
ومرعانا جسده ودمه.
قال بولس الرسول:
“…لكي أحيا لله. مع المسيح صلبتُ، فأحيا ـ لا أنا ـ بل المسيح يحيا فيَّ،
وما لي في الحياة في الجسد أنا أحياه في الإيمان
بابن الله الذي أحبَّني وبذل نفسه في سبيلي”(غلا 20:2). و
أيضاً: “حاشا لي أن افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح،
الذي به صُلِبَ العالم لي، وأنا صُلِبتُ للعالم” (غلا 14:6).
فإيمان المسيحيين ليس تصديقاً بحروف مكتوبة،
بل هو إيمان يخلع الإنسانَ من ذاته ليحيا فيه المسيح.
فنحن هيكل الله، هيكل الروح القدس، أعضاء جسد المسيح… (بولس).
يوحنا السلّمي وحَّد الفضائل الثلاث لدى بولس الرسول (1كو 13:13).
جعلها على صورة الثالوث القدوس في بعض التشابيه الآبائية:
المحبة قرص الشمس والإيمان شعاعها والرجاء نورها (المقالة30).
وفي أعقاب غريغوريوس النيصصي في شرح “نشيد الأناشيد”
جعل المحبةَ ناراً وسهام نار تخترق المؤمن.
فقال: “…لقد جرحتنِي، يا محبة…” (المقالة 2:30… و36).
الإيمان المسيحي شعاع قدسي وهبنا إياه الروح القدس.
هو نار ونور.
هو ملتصق بحرارة شمس المحبة المحرقة ومغذّى برجاء النار الملتهبة.
هو كتلة نارية من العشق الإلهي والحميّة.
ولذلك رافقت المسيحية عبر التاريخ بطولات الشهداء والنساك.
الشهداء بذلوا دماءهم من أجل المسيح.
بعضهم قاسى من الآلام ما لا تحتمله طبيعة الإنسان
لولا نعمة الروح القدس المحيي.
في القرن العشرين سقط ما يزيد عن 48 مليون شهيد أرثوذكسي.
الشهيد يبذل نفسه من أجل إيمانه.
زوجة الشهيد يعقوب المقطع العراقي وأمه هدَّدتاه بالتنصل منه
إن تراخى فأنكر إيمانه.
موقف كهذا يعطي صورة رائعة عن ابتلاع الإيمان للشخص بتمامه:
الأم والزوجة تهلَّلان لاستشهاد أعزّ الناس على قلبيهما.
فكم حرارة الإيمان قوية إلى حدّ الاستبسال في الاستشهاد!
وفي نظر الآباء القديسين، النساك شهداءُ كل لحظة من العمر
لا شهداء ضربة سيف و”انتهى الأمر”.
والمعروف أن الروحانية الأرثوذكسية رهبانية الطابع.
فالأرثوذكسي مشدود بحبال متينة إلى الشهداء والنساك.
وما خالف ذلك سقوطٌ من محبة المسيح.
لا فتور في الأرثوذكسية بل اشتعال بنيران الروح القدس.
أو السقوط في برودة العالم.
وهناك أمر هام بالنسبة للإيمان الحارّ.
فالحبّ ليس فكراً مجرداً جامداً.
الحب العميق مشبع بإعجاب المحب بمحبوبه.
هو مشغوف بشمائله، بكل حركة من حركاته،
بكل لمحة من لمحاته، بكل نظرة من نظراته.
عشّاق الجسد المتيَّمون أشباه مجانين.
لا تفارقهم صورة المحبوب.
هم معجبون به إلى حدّ الكفر بكل ما عداه.
السلّمي على هذا:
يسوع الذي طأطأ السماوات وصار إنساناً لأجل خلاصنا،
وقرّب نفسه على الصليب ذبيحة ليغسل روحنا
ويزيل خطايانا ويصير طعاماً وشراباً لنا
هو أحق بعشقنا وإعجابنا بمليارات المرات من خلائقه.
فالفاترون روحياً لا يعرفون رقة القلب الحسَّاس
الذي يرتكض ويدهش عندما يخطر في ذهنه اسم يسوع،
فيشعّ فيه نور الروح القدس.
وأخيراً لا بدّ من التنويه بأنّ ما يميّز الأرثوذكسية تمييزاً باهراً كالشمس
في رابعة النهار هو التركيز في عقيدة الثالوث القدوس
على أشخاص الثالوث أولاً
وكذلك على شخص الإنسان في علم الإنسان.
لاهوت الأرثوذكس شخصاني يركزّ على الشخص الموجود في الواقع،
لا على الجوهر والطبيعة كما في الفلسفة اليونانية الوثنية.
الأرثوذكسية نبذتها كلياً.
هذا ما عمّقه في العربية الدكتور عدنان طرابلسي في “الرؤية الأرثوذكسية للإنسان”،
واسبيرو في “سر التدبير الإلهي” و”الله في اللاهوت المسيحي”،
و”التجليات في دستور الإيمان”
وطبعاً لا ننكر تأثرنا الكامل بآباء الكنيسة والمرحوم فلاديمير لوسكي.
فيا ابن الله أصعدنا من هوّة الهلاك وضمنا إلى صدرك
كما ضممتَ حبيبك يوحنا الانجيلي.
ولا تهمل كنيستنا الانطاكية التي اشتريتها بدمك الكريم.
وزيِّنها بالرعاة الصالحين والوعاظ المفوّهين.
وارحم أهلي وصحبي الراقدين!
الشماس الناسك المعترف ابونا سبيرو جبور