لماذا تيتمت العدرا
الأنبا غريغوريوس
ان في حياة القديسه مريم أمورا كثيرة تستثير التأمل ويبدو فيها واضحا تدبير الله وحكمتة فمريم وهي التي اتخذ منها المسيح جسده وقد صاغه من دمها ليكون للاهوتة ستارا وحجابا فهي ذات مهمة في تدبير الخلاص ففي كل خطوة من خطوات حياتها ما يقتضي ان نستخلص منه العبرة والعظة وما نتعلم منه الهدف والحكمة.
إن القديسه مريم جاء الحبل بها وميلادها متأخرأ سنوات عن زواج أبويها يوا قيم وحنة. لقد ظل الاثنان عقيمين فترة طويلة. وفى الوقت الذى رأه الرب مناسبا لميلادها جاء الملاك جبرائيل ليبشر أبويها يوا قيم وحنة بالحبل بها، ويعلنهما عن دورها الذى عينه الرب لها فى تدبير الخلاص الذى وعد به أدم وذريته، ونزل من السماء لتحقيقه (لما تم الزمان)(غلاطية 4:4 ).
لكن هناك أمرا يستوقف النظر، هو أن السيده العذراء نذيرة للرب من بطن أمها. والنذر جاء من منطوق فم أمها، وكان برغبتها ومطلق حريتها، ولم تكن فى ذلك مقهورة أو مجبرة(فصلت إلى الرب وبكت بكاء، ونذرت نذرا وقالت:يارب الجنود، إن أنت نظرت نظرا إلى مذلة أمتك، وذكرتنى، ولم تنس أمتك ، بل رزقت أمتك زرع بشر، فإننى أعطيه للرب كل أيام حياته).
ولما ظهر لها الملاك جبرائيل بنور سماوى، فيما هى تصلى، وقال لها ياحنة إن الله سمع لدعائك وصلواتك. وها أنت ستحبلين وتلدين ابنة مباركة، وسيكون لها الطوبى فى جميع الأجيال، وفى كل أقطار المسكونة، ومنها يولد الخلاص من أسر إبليس، لآدم وذريته ).أجابت حنة الملاك جبرائيل وقالت حى هو الرب . لو أننى رزقت بمولودة كما قلت لى، لسوف أقدمها قربانا للرب الإله، تخدمه كل أيام حياتها فى هيكله المقدس...).
وحبلت حنة كقول الملاك، ثم بعد تسعة أشهر وضعت الطفلة المباركة وسمتها(مريم).
وبرت حنة بوعدها، ووفت بنذرها، فما إن بلغت مريم تمام الثالثة من عمرها- وهى مدة الرضاعة القانونية كما جاء على فم إحدى الأمهات تخاطب ابنها، على ماورد فى الكتاب المقدس: يا بنى ارحمنى أنا التي حملتك فى جوفها تسعة أشهر وأرضعتك ثلاث سنين ( 2 .المكابيين 27:7 ) -حتى حملتها حنة إلى الهيكل لتكون خادمة للرب فى بيته، وقد أقامت القديسه مريم فى رواق النذيرين من الأطفال...وكانت أمها حنة تزورها من وقت إلى أخر تحمل إليها هداياها من طعام ولباس إلى أن بلغت العذراء الثامنة من عمرها فتوفيت أمها، وكان أبوها يوا قيم قد توفى قبل أمها بسنتين، أى عندما كانت مريم فى السادسة من عمرها. وبهذا أمست العذراء فى الهيكل يتيمة من الأبوين فى الثامنة
من عمرها.
وظلت هناك فى بيت الرب إلى أن بلغت الثانية عشرة من عمرها، وهى سن البلوغ للفتاة والتى ينبغى فيه للفتاة أن تغادر الهيكل.
(لا تلامس شيئأ من الأ قداس، ولا تدخل القدس) (سفر اللا ويين 4:12 )، (اللا ويين 15 : 19 ، . 2 ).
وهنا نقف لنتأمل دقة الموقف وصعوبة القرار بالنسبة لمصي العدرا هذه الصبية الصغيرة وفى هذه السن،سن الثانية عشرة من عمرها، إلى أين تذهب هذه الصبية عند خروجها من الهيكل؟إنها يتيمة من الأب ومن الأم، وليس لها بيت تذهب إليه، ولا أحد ترجع إليه كما يمكن لفتاة فى مثل سنها ...؟
ولقد وقع الكهنة فى حيرة من أمرها، إلى أين تذهب، والى من يسلمونها ليتولى أمرها...ولابد أن تكون هى نفسها قد وقعت فى أزمة نفسية...لقد صارت منفردة، وليس لها أهل يأخذونها عندهم، وليس لها بيت تعود إليه...
ولقد قال بعض الآباء إن ملاكا من السماء أوعز إلى(زكريا) فى حلم أو رؤيا أن يجمع عصى رجال المدينة التى تنتسب إليها مريم، وأعنى بها بيت لحم. وكان من عادة كل رجل أن يحمل فى يده عصا يحمى بها نفسه من الكلاب والحيوانات وممن يعترضه من الأعداء وقطاع الطرق. فجمع زكريا الكاهن عصى الشيوخ والشباب من قرية بيت لحم ووضعها حسب أمر الملاك فى الهيكل، وحدث فى اليوم التالى أن العصا المكتوب عليها اسم يوسف النجار، أفرخت كما أفرخت عصا هررن من قبل(فأخرجت براعم وأزهرت وأنضجت لوزا) (سفر العدد 17 : 8 ) د(العبرانيين 4:9 ).
ولهذا السبب دعيت (مريم لم فى طقوس الكنيسة (عصا هرون ). وزاد على ذلك أن حمامة بيضاء جميلة جاءت واستقرت على رأس يوسف
فكانت هذه أيضاعلامة أخرى على أن مشيئة الله قد اقتضت أن يكون يوسف هو الرجل الذى كان عليه أن يتسلم مريم لتكون فى كنفه وتحت حماه ومسئوليته. وكان يوسف فى ذلك الوقت فوق التسعين من عمره، لأنه كما يروى السنكسار إن يوسف قد مات عندما بلغ 111 سنة، وكان . للرب يسوع فى الجسد 16 سنة (السنكسار تحت يوم 26 من أهيب)، واذن فقد كان يوسف يوم ميلاد المسيح، أو بالأحرى يوم تجسده، ابن ه 9 سنة. وعلى ذلك يكون سن يوسف عندما أخذ
مريم إلى بيته نحو 94 أو 93 سنة. وحرصأ على سمعة السيده العذراء رأى الكهنة وجوب عقد زواج رسمى بين يوسف ومريم. وكان فى ذلك الإجراء عين الحكمة، لأنه إن حبلت العذراء.وهى فى بيت يوسف دون أن يكون بينها وبين يوسف عقد زواج رسمى، أجاز ليوسف أن يجمع على العذراء الشيوخ ويرجمونها بالأحجار
(سفر التثنية 22 : . 2 ، 21 )
ولكن يوسف كما يروى الإنجيل
( إذ كان يوسف رجلها بارا، ولم يشأ أن يشهر أمرها، أراد أن يخلى سبيلها سرا. ولكنه فيما كان ينكر فى ذلك، إذا ملاك الرب قد ظهر له فى حلم قائلا يا يوسف بن داود، لا تخف أن تستبقى مريم امرأتك لأن الذى سيولد منها إنما هو من روح القدس)(متى 19:1 ، 20 ).
وهنا نتأمل ونتساءل:لماذا كان لمريم وهى التي سيتخذ الرب منها جسده، هذه الطفولة البائسة التى عانت فيها ظروفا قاسية أليمة، روحيأ ونفسيأ وبدنيا ؟ إنها كطفلة لم تعش طفولة زمانها...فهى لم تعش مع أمها غير الرضاعة وهى سنوات ثلاث، بعدها ذهبت بها أمها إلى الهيكل وعاشت بعيدة عن أمها، محرومة من دفء عاطفتها، وليس أقسى على الطفل من حرمانه من حضن أمه. فحضن الأم للطفل هو غذاؤه الروحى والنفسى والجسدى. إن حضن الأم للطفل هو.غذاء ودواء. ثم إن العذراء ببقائها فى الهيكل حرمت من العودة إلى أمها نهائيا، ففى سن الثامنة صارت يتيمة من أبويها. وظلت فى الهيكل حتى بلغت الثانية عشره من عمرها. فلم تنعم بحضن أمها غير سنوات الرضاعة، ولم تعد إلى أمها بعد ذلك بسبب وفاة أبويها...ولما تزوجت، أخذها رجل عجوز يزيد على التسعين من عمره بينما كانت هى صبية فى الثانية عشرة، وكأنها بالنسبة له ابنة أو حفيدة، وهو جدها هذه الملابسات البائسة التي عاشتها مريم فى طفولتها، ولازمتها كل حياتها إلى يوم وفاتها جعلتها حقا شبيهة بالعليقة التى رأها موسى فى البرية عندما كان يرعى غنم يثرون حميه كاهن مديان...(فنظر وإذا عليقة تتوقد بالنار وهى لا تحترق.فقال موسى أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم:لماذا لا تحترق العليقة: ورأى الرب أنه قد مال لينظر فناداه الله من وسط العليقة. وقال موسى ، موسى. قال:هاأنذا.فقال لا تقترب إلى ههنا. اخلع نعليك من رجليك. فإن الموضع الذى أنت قائم فيه أرض مقدسة. ثم قال:أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله يعقوب.
فستر موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله. فقال الرب إنى قد رأيت مذلة شعبى الذى فى مصر وسمعت صراخهم...إنى علمت أوجاعهم فنزلت لأنقذهم...) (سفر النروج 1.2 - 1 ).
أما العليقة فهى شجرة صغيرة، أو قل هى شجيرة أغصانها رخوة ولا قدرة لها على أن تنتصب بذاتها فتتعلق على ما يجاورها..
ولهذا رأت الكنيسة فى مريم أنها أيضا كالعليقة لأنه لم يكن لها أب أو أم أو أحد تستند إليه أوتعتمد عليه، فكانت شبيهة بالعليقة
التى راها موسى النبى فى البرية...والعليقة تتوقد بالنار وهى لاتحترق.
وهكذا العذراء حل فيها الله الكلمة ولم تحترق مع أن الله(إلهنا نار آكلة)(العبرانيين 29:62 ) (من منا يسكن فى نار آكلة. من منا يسكن فى وقائد أبدية) (إشعياء 64:22 ). ثم إن الله من فوق العليقة قال لموسى:إنى قد رأيت مذلة شعبى...وسمعت صراخهم...إنى علمت أوجاعهم فنزلت لأنقذهم..وكان هذا القول الإلهى لموسى إرهاصا ومقدمة واعلانا للنزول الأعظم بالتجسد الإلهى(قد رأيت مذلة شعبى...فنزلت لأنقذهم)
وها هو النشيد الكنسى عن القديسة
مريم العذراء
العليقة التى راها
موسى النبى فى البرية والنيران تشتعل فيها
ولم تمسسها بأذية مثال أم النور طوباها
حملت جمر اللاهوتية تسعة أشهر فى أحشاها
وهى عذراء ببكورية