يجب أن يقف على باب كل إنسان مرتاح وسعيد شخصٌ ما يمسك مطرقةً ليذكّره بضرباته المستمرة بأن هناك تعساء.(تشيخوف)
كان متقوقعاً على قطعة بلوك، مسنداً رأسه إلى الكشك، ضامّاً جسمه بيديه من شدة البرد، عيناه نصف مغمضتين كقنديل شارف زيته النفاد، رأسه
يميل ويخبط أحياناً بالشكك، فيفتح عينيه قليلاً ليعيد رأسه إلى وضعه الطبيعي، ثم لا يلبث النعاس أن يداعب جفونه من جديد.
أمامه بسطة صغيرة عليها شكلس وشوكولاته وسكاكر، عمره لا يتجاوز التاسعة، الساعة تقارب الثامنة مساءً، صاحب الكشك قال له بحنو: عد إلى بيتك
يا بني! فالوقت أصبح متأخراً. أجاب الولد: إني تعبان ونعسان وبردان، فقد انصرفت من المدرسة ظهراً، ذهبت إلى البيت مسرعاً، كتبت وظائفي
وحفظت دروسي وتناولت رغيفاً من الخبز أكلته في الطريق وحملت بسطتي وجئت إلى هنا كعادتي في كل يوم.
تصور أنني أحد الأولاد الذين يأكلون الشوكولاته التي يشترونها مني! البارحة أجبرتني أمي أن آكل قطعة ففرحت كثيراً.
تقول لي أن أعود إلى البيت! لا أستطيع! يلزمني كل يوم خمسمئة ليرة لشراء خبز ودواء دائم لوالدتي وبعض الحاجات الأخرى.
في تلك الأثناء مرت سيارة مرسيدس 200، فيها رجل وامرأة يبدو أنها زوجته، نزل وطلب علبة شكلس.
ـ
كم ثمنها؟
ـ 25 ليرة.
ـ 25 ليرة؟! ما هذا؟ هل تبيعها بعشرين؟
-
لا!
في المحلات ثمنها عشرون! قال صاحب المرسيدس بلهجة الواثق الخبير، ثم توجه بكلامه إليَّ قائلاً: هؤلاء الأولاد سلاطين زمانهم! لا همّ ولا مسؤولية
ولا ضرائب ولا مَن يحزنون! يبيع متى يشاء ويلعب متى يشاء وفي آخر النهار "يتبظبظ" بالغلة! هذا كله، والولد نصف مغمض العينين، ولا يبدو عليه
منتبهاً لما يقوله صاحب المرسيدس.
قلت: فعلاً هؤلاء يا صاحبي كما تقول! فأمثالهم "ينهبونني وينهبونك"! هم السبب في أن سيادتك لا تزال حتى الآن مرسيدس 200 ولم تصل إلى
مرتبة مرسيدس 280 إس!
مر طفل مع أمّه، تبدو عليه علائم الفقر! طلب قطعة شوكولاته.
دفعت أمه ثلاث عشرات وانصرفت، لحق بها الولد البائع صائحاً: بقي لك خمس ليرات. سيارة فارهة مسرعة يقودها سائق أرعن صدمت الولد بائع
البسطة فقذفته أمتاراً عدة. تجمّع الناس حوله، كانت إصابته سليمة، بيد أنه كان يصرخ من شدة الألم. اعتذر السائق عن السرعة بأن لديه موعداً مهماً
في فندق شيراتون. رمى إلى الطفل مئة ليرة فمزّقها قائلاً: يكفي أن إصابتي سليمة ولم يحل بي ما حلّ بأبي منذ سنتين.
ابتعد السائق مسرعاً وعاد الولد إلى حيث كان يجلس، يئنّ تارة ويصرخ تارة أخرى.
لم يشاهده دوستويفسكي، لكنه قطعاً شاهد مآسي مشابهة عندما قال جملته المشهورة: "إن جميع مثاليات العالم لا تساوي صرخة طفل يتألم"!!