وتتفق كلمات التوبة هذه مع كلمات الصلاة الربانية، لأنه (أي الابن الضال) قال: “يا أبي، أخطأتُ إلى السماء وقُدَّامك” (لو 15: 21). إنه ما كان ليُضيف إلى اعترافه أنه أخطأ إلى السماء لو لم يكن قد اقتنع أن الوطن الذي تركه عندما أخطأ كان هو السماء. ولذلك فقد منحه هذا الاعتراف عبوراً سهلاً إلى الأب الذي أسرع نحوه واحتضنه وقبَّله… وعلى ذلك فرجوع الشاب إلى بيت أبيه أعطى له فرصة لاختبار عطف أبيه، لأن هذا البيت الأبوي هو السماء التي أخطأ إليها كما قال لأبيه.
وبنفس الطريقة يبدو لي أنه إذا كان الرب يُعلِّمنا أن ندعو الآب الذي في السماء فهو يقصد أن يُذكِّرنا بوطننا الأُم الجميل، وهو بذلك إذ يضع في أذهاننا رغبةً أقوى لتلك الصالحات فهو يضعنا على الطريق الذي يقودنا عائداً بنا إلى وطننا الأصلي. وإذا كان “الله في السماء” حسب الكتاب (مز 115: 3)، وأنت كما يقول النبي:“تقترب إلى الله” (مز 73: 28)، فيتبع ذلك أنك لابد أن تكون حيث يوجد الله لأنك تكون متحداً به. وطالما أنه أوصى أن تدعو الله في الصلاة أباً، فهو يخبرك ألاَّ تفعل أقل من أن تصير مثل أبيك السماوي بحياةٍ جديرةٍ بالله مثلما يأمرنا بوضوح أكثر قائلاً: “كونوا أنتم كاملين كما أنَّ أباكم الذي في السموات هو كامل.” (مت 5: 48)
فإن كنا قد فهمنا الآن معنى هذه الصلاة فربما بذلك يكون الوقت قد حان لنُعدَّ نفوسنا لكي ننطق بدالة الثقة بتلك الكلمات: “أبانا الذي في السموات”. لأنه كما توجد صفات واضحة لمن يكون بشبه الله، تلك التي بها يصير الإنسان ابناً لله, لأنه يقول: “أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله” (يو 1: 12)؛ فالذي يقبل الصلاح الكامل يقبل الله, هكذا أيضاً توجد علامات أكيدة تخص الشخصية الشريرة التي لا يمكنها أن تكون حاملةً لابن الله، لأنها مطبوعة على صورة الطبيعة العكسية المضادَّة (أي الشيطان). لذلك، فقبل أن نقترب من الله يجب أن نمتحن أنفسنا إن كان لنا في أنفسنا شيء جدير بقرابتنا لله، وهكذا تكون لنا دالة أن نستعمل كلمة “أبانا”.
فالذي يعيش بطريقة جديرة بالسمو الإلهي له الحق في أن يتطلَّع إلى المدينة السماوية داعياً مَلِك السماء أباً له والسعادة السماوية وطنه الأُم، لأن الغرض من هذه المشورة هو أن يفكِّر الإنسان في الأمور التي فوق حيث يوجد الله. هناك ينبغي أن توضع أساسات البيت، هناك تُكنَز الكنوز والقلب يثبت “لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً” (مت 6: 21). فعلينا أن نداوم على النظر إلى جمال الآب ونطابق جمال نفوسنا على جماله.
إن كنتَ هكذا فيمكنك أن تُخاطب الله بدالة باسمٍ مألوف وتدعو رب الكل أباً لك. إنه سينظر إليك بعينيِّ أب. إنه سيُلبسك الرداء الإلهي ويُزيِّنك بخاتم. إنه سيجعل في رجليك حذاء الإنجيل لأجل رحيلك إلى فوق، ويُهيِّئك لوطنك السماوي في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد والقوة إلى أبد الآبدين. آمين.
أبوة الله ــ القديس غريغوريوس النيصي