نشيد أناشيد الحبّ المسيحيّ
( 1 كورنثس 13،1:13)
لعلّ الفصل الثّالث عشر من الرّسالة الأولى إلى أهل كورنثس،
هو الأعظم والأقوى بين رسائل القدّيس بولس الرّسول في الإنجيل المقدّس.
بولس رسول المحبّة إلى الأمم، الّذي ينشد في هذا الفصل نشيد أناشيد جديد،
يرنّم فيه أعظم الفضائل وأقدسها، ألا وهي المحبّة. ونرى بولس الصّوفيّ واللّاهوتيّ العمليّ
يحلّق بعيداً في سماء المحبّة، وكأنّي به ثمل من كثرة ما ارتوى منها.
والمقصود في هذا الفصل محبّة الإخوة
وليس محبّة الله مع أنّها حاضرة أبداً في فكر وقلب بولس،
فنراه يضعها في علاقة عميقة مع الإيمان والرّجاء.
من خلال هذا النّشيد يظهر لنا جليّاً اتّحاد بولس الرّسول بالمحبّة
إذ يجعلها العنصر الوحيد الّذي يكوّن جوهر الإنسان،
فيستحقّ إنسانيّته بالمحبّة، ويدرك كمالها بالمحبّة.
ليس هذا النّصّ دينياً وحسب وإنّما هو نصّ اجتماعيّ وفلسفيّ،
يدخل في صلب الجوهر الإنسانيّ ويشكّل دستوراً لحياة كلّ من احترم إنسانيّته وإنسانيّة الآخر.
ويدفعنا الرّسول بولس من خلال هذا النّشيد إلى البحث في دواخلنا عن جوهرنا الحقيقيّ
وإعادة النّظر في سلوكيّاتنا الّتي قد نصفها بالسّليمة في حين أنّها تتّسم أحياناً بالكبرياء والتّملّق.
إنّ قراءتنا المتأنّية لهذا النّشيد تجعلنا نثور مع بولس، على النّفاق والتّملّق، والعنصريّة،
والتّفرقة، والأنانية، وكلّ ما تحمله إنسانيّتنا من جوانب مظلمة،
كي نتحرّر بشكل كامل بالمحبّة وبالمحبّة فقط، ونحلّق معه إلى فوق،
حيث المحبة المطلقة، حيث المسيح. فالسّلوك في المحبّة ثورة من نوع آخر،
ثورة الإنسان على نفسه أوّلاً، ثمّ على عالم بات يعيش في هيكليّة الخطيئة،
وبات الخير فيه محجوباً والكره والحقد فيه قاعدة.
نرتفع مع بولس ونسمو حتّى نصل في لحظة
من النّشوة الرّوحية إلى تلمّس قلب الله.
-المحبّة: قيمة الإنسان وجوهره.
" إن كنت أتكلّم بألسنة النّاس والملائكة
ولكن ليس لي محبّة، فقد صرت نحاساً يطنّ أو صنجاً يرنّ.
وإن كانت لي نبوّة، وأعلم جميع الأسرار وكلّ علم،
وإن كان لي كلّ الإيمان حتى أنقل الجبال،
ولكن ليس لي محبة، فلست شيئاً.
وإن أطعمت كلّ أموالي،
وإن سلّمت جسدي حتى أحترق،
ولكن ليس لي محبة، فلا أنتفع شيئاً." ( 1 كور 3،1:13).
قيمة الإنسان مساوية للمحبّة.
هذا ما يعبّر عنه بولس الرّسول في هذه الآيات،
وعبارة ( لست شيئاً) ترادف كلمة ( عدم). فمهما عظم شأن الإنسان،
ومهما امتلك من مواهب، وعلم ورقيّ أخلاقي واجتماعيّ وعائليّ،
فهو ليس بشيء ما لم يعِ جوهره الحقيقيّ، ويسلك به.
وكلّ ما لا ينبع من جوهره الأصيل الّذي هو المحبّة،
لا يؤدّي لا لخيره ولا لخير الإنسانيّة.
كثر همّ أصحاب النّبؤات في أيّامنا، وكثر هم من ينقلون لنا الكلام الإلهيّ،
وكثر هم من يعتنون بالفقراء ويروّجون لخدمتهم.
ونرى سلوكهم يجنح إلى حبّ الظّهور والكسب الإعلاميّ والإعلانيّ،
واستقطاب المساكين من حولهم ليباركوهم ويطلبوا بركتهم،
ولا نعاين محبّتهم، بمعنى آخر لا نرى عمل الله فيهم.
المحبّة تعمل بصمت، ويأتي فعلها قويّاً مدوّياً، ويقلب كلّ المقاييس.
وكأنّ القدّيس بولس يقول لنا:
كلّ عمل أو فعل مهما بلغ من عظمة لا يساوي شيئاً ما لم يكن نابعاً من المحبّة.
ولا يكفي أن نحبّ بل يجب أن نجسّد المحبّة،
وأن نكون محبّة متنقّلة في هذا العالم.
وبذلك نكرّس كلّ ما نمتلك من مواهب ماديّة كانت أم معنويّة لخدمة المحبّة.
وكلّ ما يحمله الإنسان من فكر وعلم ومعرفة
ورفعة وإيمان لا يساوي شيئاً ما لم يكن مرتبطاً بالمحبّة.
من ساهموا في خراب العالم، امتلكوا فكراً وعلماً لكنّهم استخدموهما في سبيل خيرهم
الذّاتي ولم يسلكوا طريق المحبّة وبالتّالي أساؤوا إلى الإنسانيّة وإلى الله.
ومن يعتقدون أنّهم مؤمنون، ومواظبون على ممارسة الطّقوس
وملازمة بيوت الله، ويحتقرون أخيهم الإنسان ويستهزئون به وبإيمانه
ويضطهدونه في سبيل الله، هم فارغون من داخلهم ولا يتصرّفون
إلّا بحسب ردّات فعل ناتجة عن اضطرابات نفسيّة وعقليّة،
أو بحسب رغبتهم الجامحة للوصول إلى السّلطة.
المحبّة هي الأساس، وهي جوهر الكيان الإنساني، وبدونها يحلّ الفراغ والعدم.
المحبّة هي الانفتاح على النّور الإلهي، نستمدّ منه المحبّة ونحوّلها إلى الآخر،
فيكون عطاؤنا مجّانيّاً وشّاملاً دون قيد أو شرط.
كذلك هي القدرة على خدمة الإنسان على جميع المستويات،
الفكرية والنّفسية والإجتماعيّة والرّوحيّة. المحبّة هي الحرّيّة النّابعة
من جوهر الله والمنسكبة في كيان الإنسان، لأنّ المحبّة وهي غير مشروطة تحطّم كلّ قيوده.
وبما أنّها شاملة ومجّانيّة فهي تتخطّى الذّهنيّة القبليّة المنغلقة على ذاتها، لتنفتح على الآخر،
أيّاً كان هذا الآخر، وتسعى إليه لتساعده على التّحرّر من ذاته أوّلاً،
وبالتّالي يتمكّن من التّحرّر من قيود المجتمع والذّهنيّات الّتي تسجن الإنسان في قمقم
وتدفعه للمطالبة بحرّيّة العنصريّة وليس بالحرّيّة بمفهومها الحقيقيّ.
وبولس نفسه لم يكن ليتحرّر من عنصريّته، وتقوقعه لو لم يشرّع فكره
وقلبه للمحبّة الإلهيّة. فوهو اليهوديّ المتزمّت والمتعصّب، والمأسور بالشّريعة،
والمدافع عنها حتّى الموت، والسّاعي لقتل المسيحيّين ظنّاً منه أنّه يخدم الله
ويحافظ على العقيدة، اكتشف أنّه كان عبداً تسيّره غرائز العنصريّة والانغلاق.
ولم يكن ليكتشف ذاته لو لم يفهم أنّ جوهر الإنسان هو المحبّة،
وكلّ ما سواها يبطل وينتهي وهي وحدها تبقى ابداً.
إنّ فلسفة بولس وعلمه ساعداه في ترجمة اكتشافه وتأمّلاته ولكنّها وحدها المحبّة حرّرته. وهو القائل:
" نحن نعلم أنّ المعرفة لدينا جميعاً إلّا أنّ المعرفة تزهو بصاحبها،
والمحبّة هي الّتي تبني. من ظنّ أنّه يعرف شيئاً، فهو لا يعرف بعد كيف يجب عليه أن يعرف"
( 1 كورنثوس 2،1:8).
ليست المسألة أن نعرف بحسب بولس، بل المسألة هي كيفيّة أن نعرف،
وبماذا تفيدنا المعرفة. والمعرفة تبقى عند حدود النّظريّة ما لم ترتبط بالمحبّة لتبني.
وهنا لا ينبذ بولس المعرفة، وإنّما لا يريدها أن تستحكم بالإنسان فيظنّ أنّه وحده يمتلكها،
أو يطلق نظريّات ولا يقوم بترجمتها على أرض الواقع ولا يعيشها.
فإطلاق النّظريات أمر سهل، ولكن ما لم ترتبط بالمحبّة فهي تبقى قيد الكلام والثّرثرة.
المحبّة وحدها تبني، إذ إنّها تضع المعرفة في خدمة الإنسان.
والمعرفة تزهو بصاحبها متى اعتقد أنّه بجزء منها وصل إلى المعرفة الكاملة،
في حين أنّه وقف عند حافّة نفسه، فعرف شيئاً وغابت عنه أشياء.
وبذلك تبقى المحبّة وحدها هي الّتي تبني الإنسان
وتدفعه للسّعي الدّائم إلى كمال المعرفة،
ولكن ليس ليعرف وحده وإنّما ليخدم بمعرفته الجميع.
- المحبّة: الاتّزان العقليّ والعاطفيّ.
" المحبّة تتأنى وترفق. المحبّة لا تحسد. المحبّة لا تتفاخر، ولا تنتفخ، ولا تقبّح،
ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتدّ، ولا تظنّ السؤ، ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق،
وتحتمل كلّ شيء، وتصدقّ كلّ شيء، وترجو كلّ شيء،
وتصبر على كلّ شيء. ( 1 كور 7،4: 13).
المحبّة هي الثّقة بالنّفس وقبولها كما هي واعتبارها قيمة مقدّسة إذ إنّها من صنع الرّبّ.
هذه الثّقة بالنّفس تعزّز الحكمة في الإنسان وتغذّي عقله وتجعله ليّناً فيتفهّم ويتروّى
ولا يتسرّع في إصدار الأحكام. كما أنّها تثقّف النّفس وتنير البصيرة
وتسهم في تواضعها فتدرك أنّها مهما بلغت من معرفة وحكمة واتّزان،
ما زالت تخضع للنّقص واعية لجهلها، ساعية للمضيّ نحو الكمال.
الإنسان الممتلئ من المحبّة لا يتفاخر بشيء، لأنه فاطن إلى أنّ كلّ مواهبه هي عطيّة من الرّبّ،
وهو يسعى لتحقيق صورة الله فيها. كذلك من جُبل بالمحبّة لا يرى شيئاً قبيحاً
لأنّ عينيه لا تريان إلّا جمال الله في الكائنات والأشياء.
من هنا الإنسان المحبّ هو الحليم والصّبور والرّفيق والرّحوم،
لأنّه يدرك أنّ كلّ سلوك غير صائب
لا بدّ أنّه ناتج عن شحّ في المحبّة، فيهتمّ لتقويمه بالمحبّة.
عقل المحبّ رصين ورؤيته نقيّة وطاهرة، فيعزّز في داخله الإيجابيّة
ويبحث عن الخير والحقّ والجمال في كلّ أمر. عين المحبّ تنظر إلى أعماق الآخر
وتفتّش فيه عن نسمات الخير، وتساعده على التّقدّم لتبنيه. هكذا نظر إلينا الرّبّ،
واهتمّ ليفتيدينا ويرفع عنّا الخطيئة ويعيد إلينا بهاءنا الأوّل. " ولكنّ الله بيّن محبّته لنا،
لأنّه ونحن بعد خطأة مات المسيح لأجلنا." ( رومية 8:5).
عندما يخطئ الإنسان يرذله الجميع، وأمّا الرّبّ فيسكب عليه محبّته أضعافاً
حتّى يعود عن خطئه. " حيث تكثر الخطيئة، تفيض النّعمة"، ( رومية 20:5).
المحبّ ينظر بعيني الرّبّ، فيرى الطّيبة قبل القسوة،
والجهل قبل الإساءة والإنسان قبل السّلوك.
المحبّة هي أن تحبّ بقلب الله، فقلبك الصّغير غير قادر على منح الحبّ الكامل،
" أحبّوا بعضكم كما أنا أحببتكم"، يقول الرّبّ،
ولم يقل أحبّوا بعضكم فقط.
ولكي نحبّ بقلب الرّبّ، ينبغي أن يكون قلبنا قلبه وقلبه قلبنا.
- المحبّة كمال الحقيقة.
" المحبّة لا تسقط أبداً. وأمّا النّبوات فستبطل، والألسنة فستنتهي، والعلم فسيبطل،
لأنّنا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ.
ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض. ( 1 كور 10،8: 13).
كلّ شيء صائر إلى الزّوال، وحدها المحبّة تبقى محلّقة أبداً،
لا تفهم معنى السّقوط ولا تفطن دلالة النّهاية.
وحدها لا تلمس الأرض ولا تنحدر إلى أسفل، فالمحبّة فعل إلهيّ والفعل الإلهيّ كامل أبداً
ولا تشوبه شوائب. إنّه الكمال الّذي ارتضى أن يسكننا نحن الضّعفاء حتّى يرفعنا إلى فوق،
إلى موطن الحقيقة الكاملة.
وأيّ حقيقة أقوى من المحبّة؟
وأيّ فعل مهما بلغ من رفعة يأتي كاملاً كما هو فعل المحبّة.
إنّ بولس عاين الحقيقة يوم سمع صوت السّيّد يقول له:
لماذا تضطهدني؟.
رأى بولس مجد المحبة شخصاً، فأنّى له بعد
ألّا يصير بولس، رسول المحبّة للأمم؟
ولمّا كان كلّ شيء في هذا العالم قابل للزّوال،
ولمّا كان كلّ ما حولنا قابل للاندثار والاضمحلال،
وجب أن نبحث عن الحقيقة خارجاً عنه. هذا العالم المحدود بالزّمان والمكان،
والمأسور بمجده الباطل والفاني لا يحمل في ذاته حقيقة، طالما أنّه يتبدّل ويتغيّر.
لذا فالبحث عن الحقيقة هو البحث عن المحبّة الّتي لا يحدّها لا زمان ومكان،
ولا عرق ولا لون ولا طائفة، ولا تغويها الأضواء
ولا تصمّ آذانها الأصوات ولا تقيّدها أيديولوجيّات وانتماءات.
هي المحبّة المستغنية عن كلّ شيء والممتلكة لكلّ شيء.
هي الحقيقة الّتي لا تتبدّل ولا تتحوّل، واليقين الّذي يبطل كلّ شكّ
والقوّة الّتي تمحي كلّ خوف، والحرّيّة
الّتي تطلق الأسرى من سجونهم الفكريّة والنّفسيّة والرّوحيّة.
الله محبّة، وكلّ ما هو ضدّ المحبّة هو ضدّ الله،
وكلّ ما هو ضدّ الله هو ضدّ الإنسان،
فحريّ بنا أن نتأمّل مليّاً بمحبّتنا لبعضنا البعض حتّى لا نتجرّأ بعد اليوم
أن نتصرّف بما هو ضدّ الله. " بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي:
إن كان لكم حبّ بعضاً لبعض"، يقول السّيّد في ( يوحنا 25:13)،
ولعلّ هذه الآية تحمّلنا الكثير من المسؤولية عندما نرى أنّ كثيرين لم يروا المسيح بعد.
المحبّة الحقيقة هي الثّابتة أبداً، يقودنا إليها الإيمان،
أي الحبّ الفعّال بيننا وبين السّيد المسيح،
راجين أن نراه وجهاً لوجه متى حانت ساعة الانتقال بالمحبّة إلى حضنه الإلهيّ.
" أمّا الآن فيثبت الإيمان والرّجاء والمحبّة، ولكن الأعظم هي المحبّة"
( 1 كور 13:13).