قايين والعقاب المريع الذي أصابه نتيجة خطاياه . .
بعد أن تحدثنا عن قايين وطبيعته الشريرة، والخطايا المميتة التي ارتكبها، يجدر بنا أن ننتهي
بالحديث عن العقاب المريع الذي أصابه نتيجة خطاياه، وهذا العقاب إن تحدث عن شيء،
فإنما يتحدث قبل كل شيء عن عدالة الله الساهرة الحية التي لا تموت، وقد بدت هذه العدالة
في قصة قايين في أكثر من مظهر إذ كانت أولاً العدالة الكاشفة، أو العدالة التي لا يمكن أن يخفي عليها شيء،
أو تبهم لديها الأمور، بل هي العدالة التي تزن الظاهر والخفي بميزان دقيق
وهي أيضاً العدالة الساهرة التي لا تغفل أو تنام، بل ترقب وتلاحظ كل ما يجري على الأرض،
وترى من حقها التدخل بين الإنسان وأخيه،
إذ أن حقها في الواقع أسبق على كل حق، بل أساس كل حق، ومصدر كل حق..
وقد يتصور قايين أنه ليس لأحد حق محاسبته أو محاكمته على ما فعل، ولكنه سرعان
ما يتبين أنه واهم، وأن ديان كل الأرض، قد أوقفه أمام كرسيه ليعطي حساباً عما فعل ضد أخيه..
وهي إلى جانب ذلك العدالة الطيبة التي تفزع لموت هابيل، وتستمتع إلى صرخات دمه المرتفعة من الأرض،
لتقتص له من قاتله، محققة ما قاله المرنم: "عزيز في عيني الرب موت أتقيائه"..
وعلى أي حال فإن عقاب قايين كان عقاباً شاملاً تناوله من كل جانب من جوانب الحياة،
وقد ظهر بوضوح على الأقل في أربعة مظاهر:
الفشل الروحي
وقصة قايين بجملتها ليست إلا قصة الفشل الروحي العميق، على أوسع ما تشمل عليه كلمة الفشل من معنى،
لقد دعته أمه قايين أي "اقتناء" إذ قالت: اقتنيت رجلاً من عند الرب"
والرأي الراجع أنها دعته بهذا الاسم وهي تعتقد أنه النسل الموعود الذي سيسحق رأس الحية،
والذي سيثأر لها من عدوها المكروه البغيض، الذي أخرجها وزوجها ونسلها من جنة عدن بالتجربة
والكذب والخداع، ولعل كلمات ال**ندر هوايت هي خير ما يمكن أن يقال هنا على وجه الإطلاق!!
قال هوايت: "لقد أخطأت حواء في فهمها لقايين إذ ظنته يسوع المسيح!!
وعندما رأته يوم مولده لم تعد تذكر حزنها، إذ كانت المرأة المبتهجة السعيدة!!..
بل إن جنة عدن بكل ما فيها من أزهار وثمار لم تعد تصبح بعد موضع الاهتمام أو التفكير من اليوم
الذي تدانت فيه السماء من الأرض، واقتنت حواء ابنها البكر من عند الرب!!
وليس عجباً أن تخطيء حواء في فهم قايين إذ يكفي أن تضع نفسك موضعها!!
لقد جلبت هذه المرأة على نفسها وعلى زوجها الطرد إذ أصغت لأبي الكذاب!!
ولكن الله جاءها في محنتها ويأسها، وفتح لها كتاب وعوده بأفضل وعده إذ وعدها
بأن نسل المرأة سيسحق رأس الحية، وبذلك يفتديها من كل الشر الذي جلبته على نفسها، وعلى زوجها..
والآن تبارك الرب هوذا نسلها بين يديها، وها هو يأتيها في صورة حلوة مبهجة للقلب،
سماوية، في صورة رجل من عند الرب!! فهل تكون حواء بعد ذلك جاحدة القلب ملحدة المشاعر
وهي تنظر إلى ابنها على اعتبار أنه النسل الموعود؟؟ وهل تكون مخطئة
إذا قالت هذا هو إلهنا الذي انتظرناه، الإله الذي جاء لنا برجل من عنده؟!!
ومع كل هذا فنحن نعلم أن قايين لم يكن المسيح!! وأن ملاك البشارة الواقف في حضرة الله
عبر عن حواء وسارة وراحيل وحنة وأليصابات وسائر النساء الأخريات في إسرائيل،
وجاء إلى عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف، وقال لها: "سلام لك أيتها المنعم عليها،
الرب معك، مباركة أنت في النساء" "فقالت مريم تعظم نفسي الرب"..
أجل لم يكن قايين هو النسل الموعود،
أو على الأقل، الأمل الباسم، والأغنية الطروب، واللحن الشادي، في أرض متعبة!!
بل كان الإنسان الذي تمثلت فيه المأساة والفشل وخيبة الأمل، على أوسع صورها وأرهب معانيها!!
لقد كان عند أبويه في بدء حياته حلماً جميلاً،
ولكن سرعان ما تحول إلى كابوس مريع ليس لأبويه فحسب بل لنفسه وأخيه وجميع المتصلين به أو الآتين من نسله!!
أجل فليس هناك شيء يبدد الأحلام، ويضيع الأمل كما تفعل الخطية!!
العوز المادي
لم نعلم كم عاش قايين من السنين، وكم طال به العمر، لكننا مع ذلك نعلم أنه عاش طوال حياته في عوز مادي،
وفي احتياج دائم، إذ لعنه الله بضيق ذات اليد، في القول:
"فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك. متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها"
أو في لغة أخرى، إنه وجد الشوك في موضع الزهور، ووجد الحسك في موضع البقول،
ووجدت اللعنة الدائمة تصاحب ما يزرع ويستنبت، اللعنة التي ذكرها الكتاب عن جماعة تمشت في طريقه عندما قال:
"زرعتم كثيراً ودخلتم قليلاً. تأكلون وليس إلى الشبع. تشربون ولا تروون، تكتسون ولا تدفأون،
والآخذ أجره يأخذ أجره لكيس منقوب.. انتظرتم كثيراً وإذا هو قليل ولما أدخلتموه نفخت عليه..
لذلك منعت السموات من فوقكم الندى ومنعت الأرض غلتها ودعوت بالجر على الأرض
وعلى الجبال وعلى الحنطة وعلى المسطار وعلى الزيت وعلى ما تنبته
الأرض وعلى الناس وعلى البهائم وعلى كل أتعاب اليدين"
أجل فلقد لحقت اللعنة قايين في كل هذه، فكان في عداء دائم مع المحصول الوفير.
واللقمة الهانئة، والعيش الرغيد، والحظ الحسن -إن جاز أن نستعمل هذا التعبير-
وهكذا أدرك أن الخير المادي كالروحي سواء بسواء يرجع إلى أمر الله ومشيئته
وإرادته دون أن يرجع في قليل أو كثير إلى حكمة الإنسان أو يقظته أو تعبه أو مجهوده
أو عمله أو ما أشبه مما يظن الناس أنها تحدد المعايش والأرزاق على هذه الأرض!!
التعب الجسدي
لم تكن لعنة قايين في ذلك العوز المادي الذي سيصاحبه طوال الحياة فحسب
بل كانت في التعب الدائم الذي يحرم عليه الاستقرار في بقعة واحدة من الأرض،
لقد كان عليه أن ينتقل من مكان إلى مكان سعياً وراء الرزق بما يصاحب هذا الانتقال من تعب
وضيق ومشقة، لقد عاقبه الله بالقول: "تائهاً وهارباً تكون في الأرض"
والكلمة العبرانية المترجمة "تائهاً" تشير في الأصل إلى حالة التردد والاضطراب
والتيه التي تصاحب الإنسان الحائر الذي لا يعرف أين يتجه، أو المعيي الذي يسقط من الجوع،
فإذا أضيفت إليها حالة الهروب أو الحالة التي تنشأ من الفزع والخوف وعدم الاطمئنان،
أدركنا إلى أي حد كان قايين أشبه بالرحالة المكدود الذي يسعى في البيداء المقفرة أو الجواد التعب
الذي يقطع الفيافي من غير هدف!! وهكذا يؤكد الكتاب لنا أن الله لا يمنح
أو يمنع اللقمة النهائية فحسب بل يمنح السكن المريح أو الوسادة اللينة!!
العذاب النفسي
وهو العذاب الذي سجله قايين في القول:
"ذنبي أعظم من أن يحتمل إنك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض
ومن وجهك أختفي وأكون تائهاً وهارباً في الأرض فيكون كل من وجدني قتلني"
والشراح مجمعون على أن هذه اللغة ليست بحال ما لغة الاعتراف والتوبة،
بل هي لغة اليأس والقنوط لمجرم هاله الحكم القاسي الذي صدر ضده،
ومما يشجع على هذا الاعتقاد أن الكلمة "ذنبي" يمكن أن تترجم "عقابي"،
والواقع أن قايين كان مأخوذاً بالعقاب أكثر من إحساسه بالجرم!!
وكان مدفوعاً بالخوف، أكثر من اندفاعه بالتوبة، ولعل هذا يبرز بوضوح في القول:
"كل من وجدني يقتلني"
وأين يوجد هذا القاتل والأرض لم تعمر بعد؟!!
أهو الخوف من الوحوش كما يزعم بعض المفسرين ممن يقولون أن الكلمة
"من" يمكن ترجمتها "ما" وبذلك ينصرف المعنى إلى وحوش الفلاة والبرية؟!!
أو هو الخوف من المستقبل حين تأتي ذراري أخرى من آدم تثأر منه للمقتول، كما يذهب آخرون؟!!
لا ندري وكل ما ندريه أن صيحته هنا على أي حال ليست إلا صيحة الضمير في قصيدة رائعة،
يرينا فيها قايين الرحالة المتعب، وهو يفزع من نجوم الليل، وهمهمة الرياح وخشخشة الأوراق،
وصوت العصافير، ويتوهم أنها ضواري كواسر توشك أن تنقض عليه، وتفتك به!!
بل رأينا إياه صريع الأرق والضيق والوسوسة والمخاوف!
أجل ليس هناك أرهب من صوت الضمير إذا تيقظ، وأقصى من عذاباته
إذا حاسب ودان!! والفنان المشهور فيرناند كوكمون يرنا قايين في أخريات حياته،
وحوله من تبقى من نسله، وما يزال هو الإنسان المتعب التائه الزائغ البصر الذي يندفع في طريقه
دون أن يلوى على شيء أو يستقر على قرار إذ هو أشبه الكل باليهودي التائه
الذي حقت عليه لعنة الله بعد أن صلب المسيح!!
على أننا لا يمكن أن ننتهي من الحديث عن قايين دون أن نذكر تلك العلامة التي أعطاها له الله
لكي لا يقتله كل من وجده، ونحن لا نعلم ما هي؟!!
أهي تحول غريب في وجهه كما تزعم بعد التقاليد اليهودية؟!!
أم تغير تام في لون جلده؟!! أم هي نوع من الملابس كان عليه أن يرتديه؟!!
أم شيء يشبه القرن نبت في رأسه؟!! أم علامة على جبينه؟!! أم غير ذلك من العلامات؟!!
لا نعلم، ومن العسير على أحد أن يجزم بنوع هذه العلامة وهيئتها؟!!
ولكنها إن تحدثت وأكدت شيئاً فإنها تتحدث وتؤكد أن الله لا يحاكم إلى الأبد ولا يحقد إلى الدهر،
وإنه في وسط الغضب يذكر الرحمة، وأنه حتى قايين الآثم الشرير
الذي لم يرحم أخاه يمكن أن يجد رحمة عند الله.
ليت إيمان قايين كان قد اتسع لرحمة أشمل وأعم عند الله،
ولم يخف فقط من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها بل خاف بالحري
من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم، إذاً لشملته رحمة الله،
ولالتقى هو وأخوه في السماء في ظلال ذلك الذي هو وسيط عهد جديد،
ودمه الذي هو دم رش يتكلم أفضل من هابيل.