– شخصيّة آدم –
وقال الله لنعمل الانسان على صورتنا كشبهنا تك 1 : 26 .
قد لا يعرف التاريخ البشري شخصيات كثيرة، اختلف حولها الكتّاب والشعراء ورجال الدين والعلم والاجتماع والفن، كما اختلفوا حول أبينا آدم. أول انسان ظهر على وجه الارض. فمنهم من رفعه الى قمّة المجد، ومنهم من هوى به الى أسفل الدرجات.
على أنه مهما اختلفت هذه النظريات وتنوّعت، فمما لا شبهة فيه أن قصّة آدم، كما وردت في الكتاب المقدّس، هي أدقّ وأصحّ القصص عن الانسان الأول.
آدم ومن هو : انه نقطة البدء في التاريخ البشري. إنه صنعة يدي الله. ان المفسرين ينظرون اليه كمثال للجنس البشري بأكمله. فان موسى يرينا كيف تفاضلت نعمة الله عليه. فأعدّت له وللأجيال المنحدرة منه الفداء المجاني العجيب.
آدم الجميل: من المؤكد أن آدم لم يكن جميلا فحسب. بل لعله أجمل رجل خُلق على هذه الأرض، فكيف لا يكون كذلك وهو ختام عمل الله المبدع في الخليقة ؟ وكيف لا يكون كذلك وقد صنعه الله بكيفيّة متميّزة عن غيره من المخلوقات ؟ فهذه كان يقول لها: لتكن فتكون، أما هو فقد قال فيه: لنعمل الانسان على صورتنا كشبهنا والمقصود بصيغة الجمع هنا هو أن الله كان يتحدّث الى ذاته في الثالوث الأقدس العظيم. وان الانسان بهذا المعنى، لم يُخلق كغيره من المخلوقات السابقة، بل جاء نتيجة المشورة والتدبيروالحكمة الالهية الخاصّة، وهل يمكن أن يحدث هذا دون أن يأتي آدم قطعة فريدة رائعة في الجمال ؟ يُضاف الى هذا كلّه، أن آدم خُلق بدون خطيّة، فخُلق بذلك مُحرّرا من التشويه الذي تسببه الخطيّة.
آدم العظيم : فما من شك بأن آدم كان عظيما. وكيف لا يكون عظيما وقد خلقه الله على صورته وشبهه ؟ والانسان هنا له مقومات شخصيّة. الفكر والشعور والارادة، في المعنى الجزئي المحدود. مع الفارق الحاسم أن الله له هذه المقومات في كمالها اللانهائي. فمثلا هناك فرق بين فكر الله وفكر الانسان. وما يُقال عن الفكر يمكن أن يقال عن الشعور أيضا. وما يصُحّ في القول عن الشعور يصح أيضا في القول عن الارادة. وقد أعطى الله هذه الارادة للانسان واحترمها على الدوام فيه. ويكفي الانسان عظمة أن يكون على صورة الله وشبهه في هذه كلها، مهما يكن الفارق بينهما كالفرق بين شعاعة من نور، ونور الشمس الكاملة.على أن التشابه أكثر من ذلك قائم بين الانسان، من الوجهة الروحيّة، وبين الله. اذ أنه لا يمكن أن يستريح أو يهدأ أو يشبع بعيدا عن الله ولو أعطيته الدنيا بأكملها.
آدم ولماذا خُلق ؟ : أما وقد عرفنا من هو آدم فمن السهل علينا أن نعرف لماذا خُلق. إ ن آدم خُلق ليمجّد الله بالعبادة، والسيادة والِاثمار في الأرض.
العبادة : إن آدم خُلق قبل كل شيء، وبعد كل شيء، ليعبد الله، عبادة الانسان الوديع المتضع، الذي يرفع عينيه على الدوام الى الأعالي مستغرقا في التعبّد.
السيادة : وخُلق أيضا ليسود إذ هو وكيل الله ونائبه على الأرض، ومن ثمّ أعطاه الله أن يملأها ويخضعها، ويتسلّط على سمك البحر، وعلى طير السماء، وعلى كل حيوان يدبّ على الأرض تك1 : 26 وهذا التسلّط لخير هذه المخلوقات ولخيره.
الاثمار : وما كان آدم ليبقى في الأرض بمفرده، أو هو وحواء فقط، بل خُلق على صورة الله، وخُلق ذكرا وأنثى، وخُلق لينال بركة الله ويُثمر ويُكثرويملأ الأرض تك 1 : 27 – 28 ذلك لأنه بالطبيعة التي صنعه الله عليها يأبى الانفراد والعزلة، اذ هو دائب الحنين الى الاتصال بالاخرين ومعاشرتهم. وسجنه القاسي هو البعد عن المجتمع، والحرمان من التجاوب مع غيره. يُضاف الى ذلك أن هذا الاثمارفيه الزيادة المستمرّة الدائمة في تمجيد الله وتعظيمه، اذ انه يلد على مدى الاجيال ما لا يُعد أو يحصى من البشرالذين يرفعون أيديهم وشفاههم وقلوبهم بالحمد والتسبيح لله وخدمته كل يوم. ويكفي ما قال أحدهم : " إن الله عندما يريد أن يصنع في الأرض عملا عظيما ومجيدا يخلق طفلا " .
آدم كيف جُرب وسقط وعُوقب : من واجبنا ونحن نبحث تجربة آدم وسقوطه أن نستضيء بقول الرسول بولس : وآدم لم يغو لكنّ المرأة أغويت 1 تي2 : 14 لنرى أن التجربة عند آدم تختلف عنها عند حواء، اذ سقوط المرأة كان وليد الخداع ( الحيّة غرّتني ) لقد جائت الحيّة الى المرأة كمن يطلب لها الخير، ويريد أن يرفعها الى مركز الله، وأخفت عنها الجنّة المهدّمة والحزن والشقاء والدموع والمأساة والموت، وما الى ذلك مما سيصيب الجنس البشري على توالي الاجيال. أما آدم فقد سقط بعين مفتوحة. وسقوطهما استتبع أكثر من نتيجة وعقاب.
العار : لقد جاءتهما الخطيّة بالخجل والخزي والعار، اذ أدركا أول كل شيء أنهما عريانان، ولعل هذا ما يحسّ به المرء عند ارتكاب الخطيّة. وكلمة الخطيّة على الدوام مقارنة وملاصقة للعار والخزي ، ألم تعرِّ الخطيّة آدم؟ وتكشف نوحا ؟ وتغطّي داود بالوحل ؟ وتنحطّ بأمنون الى اسفل الدرجات ؟ وتُنزل شمشون من مرتبة القضاء الى مرتبة حيوان يجرّ حجر الرحى بعد أن أفقدته البصر؟
الخوف : واذ سمع آدم وحواء صوت الرب الاله ماشيا في وسط الجنّة عند هبوب ريح النهار فزعا وخافا، وهذا ما تصنعه الخطيّة دائما بمرتكبها، إذ تُظهره في مظهر الضعيف الذي لا يستطيع الهروب من عدل الله، مهما حاول الى ذلك سبيلا، لقد ظنّ آدم وحواء في باديء الأمر، إن التعدي والأكل من الشجرة، سيجعلهما مثل الله، وفي مستواه، لكنهما تبينا آخر الأمر، أنهما أضافا الى ضعفهما ضعفا، إذ لم يجسرا على النظر الى الله وخشيا حتى من مجرّد الاستماع الى صوته. فالخطيّة توهم الانسان على الدوام إنه قوي حتى يرتكبها، فإذا به يكتشف أنه ضعيف وجبان وإنه أعجز من أن يواجه صوت الله. أو تأنيب الضمير وعذاباته التي هي أقسى من لسع السياط.
العداوة : الخطيّة سرّ كل نزاع وخصام وعداوة في الأرض، إذ لا سلام قال إلهي للأشرار، وإذ سقط أبوانا الأولان ضعفت المحبة بينهما، كما نشأت بينهما وبين الحيّة عداوة قاسية، وأكثر من ذلك قتلت محبتهما لله. أما أن محبتهما لم تكن كالأول، فذلك يظهر من محاولة آدم إلقاء التبعيّة على زوجته، دون أن يهتم بحمايتها، وانه حين ذكرها أمام الله لم يقل زوجتي أو حواء بل قال : المرأة التي أعطيتني. أما العداوة للحيّة فقد أصبحت عداوة دائمة مستمرّة أبديّة، ومن المستطاع ملاحظتها اذا ذكرنا العداوة القائمة بين الجسد والروح في الانسان الواحد، وبين المؤمن وغير المؤمن على طول الأجيال. أما العداوة لله فتبدو في البعد عنه، وعدم الشوق اليه.
الموت : وأجرة الخطية هي موت، وقد مات آدم وحواء في اللحظة التي سقطا فيها، وانفصلا عن الله، لقد ماتا في الحال الموت الروحي، إذ لم تعد لهما الشركة الجميلة المقدّسة مع خالقهما المحب وأبيهما القدوس، بل لم يعد لهما ذلك الاحساس الذي ألفاه وتعودا عليه، إحساس الحنين اليه والشوق الى رؤياه، وهكذا أدركا صدق الله القائل: لأنك يوم تأكل منها موتا تموت.
كيف خلص آدم وأخذ طريقه مرّة أخرى الى الفردوس؟ على أن قصة آدم لم تنتهي بالطرد أو الموت أو الهلاك، وكيف لها أن تكون كذلك، وقد سبقت نعمة الله فأعدّت له الخلاص المجّاني الكامل العظيم، ان الله أعلن خلاص آدم قبل اعلان عقابه : وهذا واضح مما نقرأ في سفر التكوين إذ قال الله للحيّة، قبل أن يحكم على آدم : " وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها وهو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه. " تك 3 : 15 . أو في لغة أخرى إن آدم سمع حكم الخلاص قبل أن يسمع حكم الموت. وهل هناك برهان على عمق رغبة الله في خلاص البشر كهذا البرهان ؟ وهل هناك دليل على أن الله يُسرّ بالرحمة ولا يسرّ بموت الخاطيء كهذا الدليل ؟
أعلن الله خلاص آدم بالدم : لقد حاول آدم تغطية الخطيّة تغطية مشوّهة ( اذ خاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر تك 3 : 7 ) وهما أول من يعلم أنها لا يمكن أن تبقى أو تستر، أما الله فقد ستر عريهما بذبيحة، " وصنع الرب لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما تك 3 : 21 " اذ بدون سفك دم لا تحصل مغفرة " . وهنا ندرك أمرين أساسيين أصيلين في الخلاص، إنه أولا وقبل كل شيء، من صنع الله، والله وحده. " وصَنَع الرب الاله " وليس للانسان في إعداده وترتيبه أدنى نصيب أو مجهود أو مشاركة، إذ يرجع في جملته وتفصيله الى فضل النعمة الالهية المجانية الكاملة. والأمر الثاني إن الخلاص بالدم، والدم وحده. وهنا نرى النبوّة الأولى عن الصليب. بل هنا نجد الجواب الأوحد من الله المخلّص للعالم الخاطي الشرير. ونجد الدواء الشافي والتعزية في الضيقات وسترا للخجل وتهدئة للخوف وتغطية للعار.
ألا يجمل بنا اذا، ونحن في هذا المقام، أن نحوّل أنظارنا قليلا من آدم الأول الى آدم الثاني ؟ ومن أبي البشريّة في الخطيّة الى إلهها في الخلاص ؟ " فانه اذ الموت بانسان، بانسان أيضا قيامة الأموات. لأن كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع" 1 كو 15 : 21 و22 وهكذا مكتوب أيضا، صار آدم الانسان الأول نفسا حيّة وآدم الأخير روحا محييا 1كو 15 :45 الانسان الاول من الارض ترابي والانسان الثاني الرب من السماء. 1كو 15: 47 . فلو انتُزع الرجاء المبارك من الكتاب الكقدّس أن نسل المرأة يسحق رأس الحيّة فلن يبقى هناك سوى جنّة مهدّمة وانسان مشرّد وناموس رهيب ومزامير يائسة. ولكن شكرا لله لأنه لم يعطنا هذا الرجاء فحسب بل أعطانا إياه منذ فجر التاريخ، وعلى الصفحات الأولى من كتابه العظيم.
الحكم على آدم كان لاتمام الخلاص : فالعقاب الذي أوقعه الله على أبوينا الأولين لم يكن لمجرّد العدالة الالهيّة فحسب، بل كان أكثر من ذلك لقد كانت رحمته الفائقة تحتّمه وتلتزم به. فلو أن آدم وحواء أكلا من شجرة الحياة ( الشجرة الموجودة في الجنّة والتي نهاهما الله عن أكلها بالاضافة الى شجرة معرفة الخير والشر ) فلو أكلا من هذه الشجرة وهما خاطئان، لكانت الحياة لهما أمرّ عقاب وعذاب، ولكان بقاؤهما في الجنّة هو الجحيم بعينه. الا أن الطرد والتشريد والالم والتعب ولدغة الضمير لهما، هو الباب الضيّق والطريق الكرب الى الفردوس المردود. وهل أنا وأنت والمؤمنون جميعا إلا ذلك الحشد الذي يسير في موكب الحياة وقد قيل عنه : " تجرّبوا في هزء وجلد وقيود وحبس، رجموا نشروا ماتوا قتلا بالسيف طافوا في جلود معزى معتازين مكروبين مُذلين، وهم لم يكن العالم مستحقا لهم، تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الارض . " عبرانيين 11 : 36 – 38 .
دعونا اذن نشكر الله لا على الشمس المشرقة فحسب بل على الغيوم أيضا، ولا على النسيم الخفيف فقط بل على الريح العاصف أيضا، ولنهتف من الأعماق مع الرسول بولس قائلين: ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معا للخير للذين بحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده، لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعيّنهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكرا بين اخوة كثيرين، والذين سبق فعيّنهم فهؤلاء بررهم أيضا. والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضا رو 8 : 28 .