الولادة الحقة!
حقّا أنتَ لم تختبر الولادة الجديدة، إنْ كنتَ لا تشعر أنّكَ تحتاج إلى التغيير، وكنتَ مقيدا تحت سلطان الدين والتدين، وتتحاشى مواجهة الضعفات. أنتَ لم تختبر الولادة من فوق، إنْ لم يكن قلبكَ مفعما بالإيمان والأخلاص والولاء التام لله. فإنْ كنتَ أنتَ تدور حول نفسكِ بأقصى ما تستطيع، ولم تذهب بعد إلى التحدي الحقيقي الذي أمامكَ، ولا تدفع بقوى الظلمة بعيدا، بل تصير مثل دجاج ينقنق في ظلمة الغرفة. والتحدي هنا هو ليس إلا التغيير الكامل للقلب والذهن، وتحاول أنتَ أنْ تعيش بصفاء رأسكَ، أنْ تعيش على أوهام من الطبيعة، وتلاحق أشياء صغيرة، وترى الشر وكأنّه أمر طبيعي. بل تريد أنْ توسع حق الموت وتقيد الحياة. أنت أشبه ما تكون بشخص يتكلم عن الجذوة ولا يتكلم عن الشعلة. لا يمكن أنْ تكون ولدتَ ثانية، إنْ كانت ثمة ظلال من الكآبة تخيم على نفسكَ، وكانت مسحتها تطوف على قسمات وجهكَ، وكان الحزن طاغيا عليكَ حتى أنّكَ لا تعرف شعورا أخرا إلا الحزن، والحزن، فتسعى لكي تغرق حزنكَ في الخمر أو الدم.
أنتَ لم تختبر الولادة الجديدة، إنْ كنتَ تحقق أهدافا دنيوية على الأرض، أنْ لم تخلع الأسمال، وتهدم ما حول نفسك من جدران، وتزيل الأشياء العتيقة وتطرحها عنك، لن تمتلأ بفرح كبير، الفرح الذي يعجز عنه الوصف، ولن تتخطى الحدود، وإلا فإنّ مشاعر الكراهية غالبا ما تندلع في النفس بطريقة تلقائية، إذ ليس هناك في الدنيا ما يعوض البعد عن المحبة، فالمحبة ينبغي أنْ لا تكون مجرد فكرة بلا معنى. إنْ كنتَ لا تجد نفسكَ في دائرة النور الحقيقي، وقد امتلأت سلاما وحرية من أثقال الخوف، والراحة من أثقال الذنب والخطيئة. لا تعيش الحياة كما كنتَ تعيشها في السابق، في أعماق الغاب، يا لابتهاج الطيور في تغريدها لأنّ لها أعشاش.
أنتَ لم تختبر الولادة الجديدة، التي هي نقطة التحول الحاسمة، والانطلاق في الحياة، إنْ كنتَ لا تتأمل في الحياة نفسها، وتنظر إليها نظرة متفحصة، فتسير على طريقها، كل الأيّام، وإنْ كنت لا تعرف الحق، ولا تعيش بحسب الحق، ولا تلتصق كلمته، لكي تستقر في أغوار فكركَ. فالله يعلن الحق في خليقته، ولا يمكنكَ أنْ تتخلص من كل شيء مبني على وجود الله. فالحق ليس مختفٍ كما يعتقد الآخرون، ولا هو غير ظاهر لا يمكن معرفته، فمعرفة الحق تملأ المرء بالراحة. فمن دون الحق، سوف تشعر أنّكَ غير قادر أنْ تميز بين الخطأ والصواب، وعليك أنْ تفحص وجهة نظركَ لأنّها تؤثر في كل شيء تفعله.
أنتَ لم تختبر الولادة الجديدة، إنْ لم تتفجر في قلبكَ ينابيع المحبة، والرحمة، أنهارا، وتنعتق من سلطان الخطيئة وحكمها، وأنْ لا تتغاضى عنها البتة تحت أيّ ظرف كان ، فالخطيئة لا تأتي إلا بالخزي بالرماد، ولا تخلف ورائها سوى الإحباط والشعور بالفراغ والاختناق، فمسالك الخطيئة هي آبار مشققة. وعليكَ أنْ تحزن عليها كثيرا، وأنْ لا تسعى قط إلى تبريرها، وأنْ لا تدع للحماقات أنْ تجد سبيلا إلى قلبكَ. إنْ كنتَ تتعهد أنْ تظل ثابتا في جانب الحق، ولا تجانب الصواب، وأنْ لا تهرب إلى هنا أو هناك بل تبقى ملازما الحق حتى النهاية.
أنتَ لم تختبر الولادة الجديدة، إنْ كنتَ لا تتوقف عن المغامرة، ولا تدع نفسكَ من مطاردة السراب. إنْ كنتَ لا تعلو بنفسكَ عن صغائر النزوات والترهات التي تفسد النفس، وتدنسها، وتركتَ الماضي يطفو على السطح. أنتَ لم تختبر الحياة الجديدة، إنْ كنتَ تنظر إلى الآخرين بطرف عين، بشيء من الهزء ة السخرية، أو كنتَ تلعب لعبة التظاهر لكي يراكَ الناس.
أنتَ لم تختبر الولادة الجديدة، إنْ كانت الأيّام تمر بكَ وتنساب الحياة فيها برتابة، بلا شكل ولا طعم، مثل العنكبوت التي تدع الذبانة تطن، فتضم رأسكَ بيديكَ اكتآبا وتنهدا وحسرة. أنتَ لم تختبر الولادة الجديدة، إنْ كان قد زحف عليكَ روح التدين الزائف الذي يبحث دائما عن المكافأة، وطاردكَ كما تطارد الكلاب المسعورة الناس. إنْ كان ينمو فيكَ الخوف في غياب المعرفة، فأيّ أجر يحظى به الفريسي مقابل تظاهره بالباطل. فالتدين عقيدة جامدة خاوية لا حياة فيها، بل يملأها الموت. وضعتَ العالم نصب عينيكَ. وتريد ثمرا جيدا من دون جذور جيدة. بعد إنْ كنتَ لا تعرف الحقّ، لو أنْ تسلم حسب الحق في كل مجالات الحياة. أنّ الله أعلنه لنا بأعماله.
أنتَ لن تكون مع توافق تام مع معنى الحياة، وقصدها، وأنتَ تعيش في عزلة روحية تامة، ولن تعرف ماهية الحياة، بل سوف تبقى لغزا بهيما، إنْ كنتَ فقدتَ القدرة على سماع صوت الله، إنْ كنتَ متعلقا بالماضي، إنْ كنت تتغاضى عن الخطيئة، وكانت الخطيئة تلمس كل جزء من حياتكَ. إنْ كنتَ في خصام مع قريبكَ إنْ كنتَ تقيد المحبة بقيود بشرية، وتفتقر إلى أحشاء رأفة. إنْ كنتَ تعيش في الوحل الذي تكرهه، إنْ لم تكون دعوتكَ هي تحقيق أهداف الله. فأنت بحاجة إلى أنْ تكون مولود مرة أخرى.
لا يمكن أنْ تدخل إلى عمق المياه، ولا أنْ تصنع أمواجا. حينما يطرق إيمانكَ على سندان الشك، وحين تغدو حياتكَ على وشك الانهيار. إنْ كنتَ تتوق إلى اليقظة من السبات إلى الحياة. إنْ كنتَ تتوق إلى التحرر من سلطان الخطيئة وعبوديتها. إنْ كنتَ تندفع إلى حياة جديدة أبدية، إنْ كنتَ قادرا على تمييز الخير والشر وقادرا أيضا على مقاومته وفي التو والحال. إنْ كنتَ تحس بالوحشة حينما يهبط الظلام. حينما يكون في قلبكَ اشتياق على الانتصار على الخوف والقلق واليأس وعلى الهزيمة لن يستطيع المرء أنْ يرى الأشياء كما هي على حقيقتها، ولا يمكن أنْ يقف موقف عدم مبلاة حيال الخطيئة إلا متى كانت حياته منسجمة مع قصد الله فولد من فوق وعاش بحسب النعمة عمليا، وتناغم قلبه مع الله حتى يتمكن أنْ يمنح المحبة لغيره.
إنّ الإنسان لا يستطيع أنْ يحب الإنسانية من تلقاء نفسه، ولا يحب أخوته، ولا الأعداء، ولا أمورا أخرى خارج عن نطاق دائرة نفسه، ما دامتْ إرادة الأنانية تحكمه، وتهدم كل مقومات المحبة فيه. فالإنسان من دون الله لا قيمة له. ستولد عندما تبعث الحياة في إرادتكَ في قلبكَ وفكركَ بقوة، وتعصف بكل الرياح الغريبة، وبكل غرس لم يغرسه الله. تماما مثل الجياد التي تنقلب على أعقابها. تفتح عينكَ لرؤية نور الحياة، ولا يكون لكَ هم التسكع وراء وراء المتع والملذات، ولن تقضي وقتكَ في الحماقات، مثل امرأة منحنية لا ترى سوى خطواتها على الأرض الباردة.
ما لم تولد مرة أخرى، سوف لن تخرج من تجربة ومرارة البرية، التي تعني الموت بقدر ما تعني الحياة، فإنّك لن تنتقل البتة، من بيت العبودية، إلى بيت الحرية لتصبح طليقا بل تكون مثل نسر جارح ينحدر من علو ليلتقط فريسته. تكون مثل الأرض التي تسقط الأخيلة. لن تستطيع أنْ تخرج من الظلمة البتة. ولن ترى النور الذي طالما كان محجوبا عنك تنتزع من براثن الشر تصير إرادتكَ ولا طرقكَ متفقة مع إرادة الله. ستنام بعين وتصحو بعين، ولن تستطيع أنْ تميز بين الموت والحياة، فتجلس في وحشة الموت ولا تجد تعزية ، ما دامت الآلام تمزق قلبكَ.
كما أنّ الطبيعة العتيقة قد سادت عليكَ، ونشرت أفكارا سوداء في أعماقكَ. ولن تحلم أيضا بأشياء كنت تحلم بها من قبل، إذ ستبدو لك الحياة جافة وغير مثمرة. وسوف تبقى تصارع بين الرجاء والخوف. وأنتَ تتسلق بكل ما أوتيتَ من قوة، لكن من دون جدوى، فالمحاولة قد لا تحقق لك الغلبة وقد لا تصل القمة. سوف تبقى طبيعتك القديمة هي التي تأسركَ، تستعبدك، تنهك قواكَ، وتسلبكَ إرادتك، وتتركك للهموم والقلق والارتياب تقود إلى طريق ليس طريق الحقيقة، طريق الضلالة والخطيئة، وكل ما هو باطل، فيما إذا كنتَ لم تختبر الولادة الجديدة، الولادة من فوق،
من الحق.