لا تقل من الرب خطيئتي، فالرب لا يعمل ما يُبغضه، ولا تقل هو الذي أضلني
لأن الرب لا يعوزه الخاطئ.. الرب خلق الإنسان في البدء وتركه حُراً في اختياره..
لم يأمر أحداً بفعل الشرّ، ولا أذن لأحد أن يُخطأ ]
(رجاء العودة إلى سيراخ 15 حسب الترجمة السبعينية)
مصدر حيرة الإنسان ومشكلته الحقيقية دائماً أبداً انه ينسى موقفه الدائم تجاه الله والعالم الذي خلقه
فأصل كل تعب ومرض ومشقة في العالم وشقاء كان ولازال هو الإنسان
الذي دائماً ما يُلقي على الله بحالة من الإسقاط في أنه مصدر شقاؤه وتعبه
الذي يورط نفسه فيه، مثل إنسان مجنون طعن نفسه بالسيف ظناً منه أن هذا هو التعقل
ويلقى على آخر سبب طعنه بالأوجاع، وأيضاً غير مدرك أن مصيره وحياته على الأرض
يحدده هو بنفسه ومرتبط بالجنس البشري عموماً في مجتمعه على المستوى الضيق
الذي يتأثر على المستوى الواسع بوطنه، وعلى مستوى أوسع بالعالم ككل…
فالموضوع لا يندرج في أن الله يرحم واحد ويتخلى عن الآخر بهذا الشكل الذي ننظر إليه
ونتحدث فيه ونلقى الأسئلة من حوله ونرى الله هو السبب في كل ما يحدث
من كوارث ومشاكل ونقول لماذا سمح به مع انه قادر أن يُنجي الكل منها
مع أن المشكلة الحقيقية تكمُن في قصور البصيرة التي لا ترى عدل المحبة في التقوى
وإعلانات المحبة المشرقة من الله الحي:
[ نور أشرق في الظلمة للمستقيمين، هو حنان ورحيم وصديق ] (مزمور 112: 4)
[ الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً، الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور ]
(أشعياء 9: 2)
[ قومي استنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليكِ ] (أشعياء 60: 1)
[ لأن الله الذي قال أن يُشرق نور من ظلمة، هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة
معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح ] (2كورنثوس 4: 6)
وللأسف نظرة الإنسان الدائمة إلى الخلود انحصرت في الحسيات والأرضيات
التي وقع تحت ثقلها المُدمر للنفس، وانحصاره فيها جعله ينظر لما هو أسفل قدميه
ناسياً أو متناسياً كل ما يرتكبه الإنسان من فظائع وشرور ويضع الله بمثابة
أنه هو الذي حرك كل هؤلاء ليفعلوا شراً ليُتمم خطته، وهما بدورهم أثروا على العالم
كله بالشرّ الذي دمره ولازال يدمرة بسبب طموح الدول الكبرى والرؤساء
الذين نصبوا أنفسهم ملوكاً وآلهة يتحكمون في مصير باقي الشعوب
ويسلبوهم قواهم وحق عيشتهم، وسببوا لهم الفقر والجوع والألم …
مع أن الله في النهاية يحد شرّ الإنسان لكي يستيقظ من غفلته، لأنه منذ البدء وضع قوانين للطبيعة
لتسير بها بدقة، وهو في نهاية كل أمر وشدة يحوِّل الأمور للخير الذي لا يراه الإنسان
ولا يعرفه إلا لو دخل في سرّ الإيمان الحي الرائي، وليس إيمان الظلام الأعمى
الذي يفسر كل أمر لا يفهمه على أنه طريق إلهي في المطلق، كما حدث في عصور الظلمة
عند ظهور أي مرض غريب يقولوا أن هذا الإنسان ملعون من الله وهو خاطئ والله جعله عبره
ويبنغي أن يموت، أو أن الشيطان لبسه فيحرقوه…
ومشكلة الإنسان انه انحصر في الدين، فقد دَيَّن كل شيء وجعل الأمور وكأنها مُسيره
تحت التفسير الديني الضيق الذي شوه حتى صورة الله نفسه، ولكونه خالي من خبرة الله الحقيقية
محصوراً في مجرد أفكار صنعها وكوَّنها عن الله في مخيلته حتى أنه عبدها وصار ضد
كل من يخالفونها، لأن الإنسان حوَّر الأمر كله لفلسفة دينية وليست لرؤية بإلهام
وإعلان فوقاني، لأن الدخول في سر الشركة بالمحبة مع الله الحي، يجعل الإنسان لا يحتار بل ينحصر
في قوة محبة الله ناظراً قوة عدله الظاهر في وحدة القلب والواحد والتصاق النفس به
وهذا يظهر في واقع حياته المُعاش بدون تلفيق للواقع أو تلبيسه ثوب مزركش ليهرب من المسئولية
الموضوعه عليه، أو لكي يفسر كل شيء غامض بشكل ديني يخدع به نفسه أولاً ثم البسطاء الذي
يسمعونه، محاولاً أن يقنعهم برؤيتة وإيمانه الشكلي، وليس بالواقع كخبرة يرونها ويلمسونها
بأنفسهم…
والمشاكل عادة التي نراها تظهر عند الدينيين ووقوعهم في الشك ثم رفض لفظة الله نفسها واعتبارها
وهم لخداع البسطاء، وذلك لأن من عاش مُتدين وقع في مشكلة الوهم، وحينما استفاق على الواقع
العملي المُعاش، سقط كل شيء وهرب منه إيمانه، وتعرى من الثوب الذي نسجه ولفه من حوله
مثلما تُشرق شمس صيف حارقة على عشب الحقل، فأن العشب ييبس ويسقط زهره ويفنى جمال
منظره، وهكذا كل من يلتحف بصورة الدين بشكل جمالي ولكن الأيام ستفضح إيمان الوهم الذي يعيش
فيه الإنسان، مستتراً وراءه ليهرب من مواجهة الواقع العملي المُعاش، لأنه يريد عالم خيالي يسكنه
كمدينة فضلى، ويُسخِّر فكرة الله لهذا العالم الذي يبنيه بدون أن ينظر لمن حوله وكأنه هو وحده من
يعيش في هذا العالم، الذي يُريد أن يكون طيعاً له حسب فكره وتمنياته وأحلامه الشخصية التي في أوج
أنانيتها بدون أن ينظر للآخرين، وحتى أن نظر للآخرين بعين الشفقة لكونه يريد لهم الأفضل، خادعاً
نفسه، لأنه يُريد من يصطفون حوله ويستدر محبتهم وعاطفتهم لتُشبع نفسه، دون أن يفكر أن يحيا مع
الآخرين في شركة حقيقية صادقة فيها يبذل نفسه ويعطي كما يُريد أن يأخُذ…
عموماً إلى اليوم سيظل الإيمان سرّ لا يستطيع الإنسان أن يفهمه
إلا لو دخل فيه بالحقيقة وليس بالوهم أو الفكر، بل بوجدانه في حالة من الصفاء
بلا تشويش أو هزة نفسية مريضة، فتنفتح البصيرة على الحق
ولكنه ليس حق الناس بل الحق المطلق الذي مصدره الله الحق ذاته…
ولا عجب أن يظل الإنسان في حيرة شديدة، لأنه لم يعرف الله بعد، لأنه عرف الله الفكرة
إله الدين والتدين، ولكنه لم يعرفه بعد كشخص حي وحضور مُحيي يرفع النفس للنصرة
على الموت ولشهوة لقاءه وجهاً لوجه، لأنه رأى وعاين نوره بنفسه
وليس من الكتب وفلسفة الناس وحواراتهم الضيقة التي بلا خبرة ولا لقاء حقيقي
مع إله حي يُعلن ذاته ويُظهر مجده:
[ لأن عندك ينبوع الحياة، بنورك نرى نوراً ] (مزمور 36: 9)…