هل من رجاء؟ ؟ ؟
هل من رجاء عندما تنقلب الأعمدة، وتعوج المستقيمات، وتقوم الدنيا ولا تقعد، وحين يضطرب البحر المحيط، وتتزعزع أسس الأرض، وحين تنقلب الجبال إلى قلب البحر. عندما يضرب الحابل بالنابل، وحين تسود الفوضى أنحاء من المسكونة، ويبلغ السيل الزبى.
هل من رجاء حين تتلبد السماء وتتأوه الريح الخريفية، وحين ينهمر الغيث في الليل المطير، وتهب عواصف الجنون، وتتكسر الأمواج على الشاطئ، ويتسع الخرق في السفينة ، من دون أنْ تعرف السبب، ويبدو كل شيء في التفكك والانهيار، ولا يرخي الليل سدوله حتى تتمكن من الهرب، بل كل ما حولك يصرخ متلهفا لعله يجد طريقا! هل من رجاء ؟ هل يعزّي المرء نفسه بيقين كاذب، أو رجاء كاذب؟
هل من رجاء، حين يتعالى نحيب وصرخات المساكين البائسين بمرارة، ولا من منقذ أو مجيب لهم، حيث يبعث الأسى في النفس إحساسا بالمذلة والعبودية ؟ حين يهرع المرء إلى خارج بناء يحترق. حين تئن القلوب شاكية باكية، ويبلغ بها العجز فرط اليأس، لينتهي بها المطاف إلى الحزن، بعد أنْ تغرق في مهمه الأمواه. يسحق الشرير البريء، وييرّئ الظالم!
حين تتعاقب الفوضى، وتسود الظلمة وتنقلب الأمور رأسا على عقب، وتتحول الحياة إلى سبات، إلى شكلية خالية من الحياة، تصبح حينئذ الحياة بالغة السأم والممل، تصبح كأنها خداع وفراغ وإثم، وتصير الأحزان أحزانا خرساء. لتمضي زفرات أنفاس قليلة، ويدور المرء كالأعمى من غير أنْ يعلم شيئا مما يجري حوله، ولم يعد له مهرب البتة. هل من رجاء؟
هل من رجاء حين تنطق الأسارير بالحزن وتستمر مشاعر القلق كالوكف المتواصل، تصرخ بالنفوس، في صمت قاتل: لماذا طلع النهار، ما دام المرء لا يجد نفسه في دائرة النور القوي؟ وحين يبدي المرء الخشية، ولا يستطيع أنْ يمنع نفسه من الشعور بمزيد من الانزعاج، والقلق ؟
وحين لا يعرف الفلاح إلى أيّ مدى يجب أنْ يحرث أرضه, وكأنّ لم يبقى حين للمرء إلا الخصوع ؟ ذا لا يبقى عليه إلا أنْ يضم رأسه بين يديه، ويغمض عينيه، ويهجع وسط الظلام راضيا قانعا، ويلبث لا يبدي حراكا. هل من رجاء ؟
كيف ينبغي أنْ نتصرف، حيال ذلك الوضع الأليم المؤلم، وكيف ينبغي أنْ نسلك ؟ هل أنْ نقف على مفترق الطرق، أو نشرأب بأعناقنا إلى الوراء مثل امرأة لوط، أو نعود القهقرى ونسلم بالأمر، ونعلن الفشل، ونحن نرى الفريسة تغتصب من قبضتنا ؟ تخطو خطوات وئيدة نحو النفق الطويل المظلم الذي لا ينتهي، لأنّ طريقكَ انتهى إليه ؟
وأنتَ لا تفقه شيئا مما يدور حولكّ، تتعثر حينا، وتلتقط أنفاسا حينا آخرا، لكأنّك لا تجد له من نهاية؟ إنّ الفقر والجوع يبدأن داخل الإنسان، وتخلق الخطيئة في داخله جروحا عميقة ولكن يصبح الناس، فقراء وجياع بسبب أشياء خارجة عن إرادتهم؟
لندرك جيدا هذا الأمر الغريب، ونعرف أنّ هناك معركة كبرى حامية الوطيس، لا هوادة فيها. ونعلم علم اليقين أنّه لا يمكن أنْ يُترك لليل الداجي القاتم الدامس، يعبث بالأمور كيفما شاء وبالطريقة التي يراها، فينشر وشاحه الأسود، وأشباحه المخيفة، ويطلق العنان لنفسه، يقحم وجوده في الزمن كل الزكم، ويفرض سلطته عنوة، ويبقى يمتد، ويمتد كثيرا، من دون أنْ يعقبه بزوغ فجر منير، أو نهار.
والحال هو أيضا عينه مع الشمس التي تحجبها السحب المكفهرة، حيث تخفي سحرها ولمعانها حينا، عن الأنظار، هل سوف تبقى على تلك الحال، طويلا، دون أنْ تنجلي وتضمحل؟ أم أنّ الشمس سوف تسطع بأنوارها السماوية الباهتة، وتبدد كل السحب؟ وكذلك مع العاصفة التي يسبقها الهدوء، سوف تنتهي أيضا ليعقبها الهدوء التام، مرة أخرى. إنّ تلك ليستْ العملية، سوى تبادل الأدوار للأحداث، ولعبة التظاهر بغية أنْ يراها الناس. ترى هل ندرك حقا إلى أين يمتد سلطان الليل، والشمس، والعاصفة، ألخ ؟
ما دام ليس هناك رجاء. فهناك إذا اليأس القاتل والانهيار المرعب، والموت الذي شرع بابه على مصراعيه، وما دام الموت يقتل ولا ترتعش يداه، فلنذهب إلىه ونتحدث له مستسلمين بروح اليأس، ليس إلا، وما دام المرء لم يتخلص من الرماد، وينظر إلى الموت بعين ملئها الوجل والخوف، وهو بعد لم يتحرر من الضجر الذي دب في نفسه، وما دام لم يترك من الحيرة، ما لم يتحررالقلب من الخوف، سوف لن يمتلأ سلاما وراحة وحرية من أثقاله، ولن يتخذ طبيعة جديدة، تستطيع أنْ تهزم بها الخوف، وكل أشكاله، وتنتزع الغلبة بقوة.
فعلى المرء أنْ في هكذا حالة أنْ يستسلم إلى اليأس، بل ليذهب أبعد من ذلك بقليل إنْ كان لا يفتقر إلى رجاء، أنْ يذهب، ويحفر قبره بيديه، وينتظر الموت البطيء. فإفساد الأشياء لا يتطلب الكثيرا من الجهد.
لأبد من الرجاء، فالرجاء هو الثقة، وهو فسحة كبيرة نرى من خلالها بعين الإيمان، أمور مذهلة، ومدهشة حقا، وهكذا يعود كل شيء جديد، ويضع المرء بروح الإيمان قدميه في أول الطريق، على أرض صلبة، لا تتزعزع، حتى عندما تفسد عليه الفرصة بالحزن، على ما فات، وحتى حين لا يرى ما بعد الأكمة، لكن وراء الأكمة ما ورائها. فالأمور لا، ولن تبقى على ما هي عليه، لن رهينة الواقع المريرقط. فالقائد المهزوم، الذي دحر، لا يبقى مهزوما، يهزّ راسه في حيرة، كل أيّام حياتهو لا شك أنّه قد يكلل في معركة القادمة، بالنصر المبين، ويغير كل شيء.
فالتغيير هو سيد الموقف في عالم يتسم بالتغيير، لحظة بلحظة، ولنا في المواسم خير دليل. ما أشقى الحياة، لو بقي الشتاء يحرض الناس على اتباع مسلكه، فيصول ويجول على أيّام السنة، ويتحكم بها، ويعمل بدافع من الكبرياء والأنانية، ويعمل بأمنية حمقاء، من دون أنْ يترك للمواسم الآخرى أيّة امكانية لكي تأخذ فرصة، في ظل دوران الأرض.