الاتّحاد الأخويّ في الربّ
قال الرسول إلى المؤمنين في كنيسة فيلبّي: "لذلك يا أحبّائي، كما أطعتم دائمًا، فلا يكنْ ذلك في حضوري فقط، بل على وجه مضاعف الآن في غيابي، اعملوا لخلاصكم بخوف ورعدة"(2: 12).
كلّ إنسان، اعتنى بأن يُسهم في تربية سواه كنسيًّا، يعرف قيمة ما اقتبسناه من فم بولس هنا. ويعرفه، أيضًا، كلّ مَنِ احتلّه الوعي أنّ كلّ خير، تلقّاه، إنّما يقوم على أنّ كلمة المربّي الحقّ هي وجهُهُ! فالمربّي لا يُغيَّب، بل يبقى حاضرًا في ضمائر طُبع فيها الخير أبديًّا. هذا دليل على أنّك تربّيت فعلاً.
قَبْلَ أن نستغرق في معنى هذه الكلمات، يجب أن نبيد خطرًا قد يتسلّل إلينا. وهذا أنّ بولس دفعه إلى قوله شعور بأنّ أهل فيلبّي كانوا يُمالئونه، حاضرًا، بطاعتهم. لا، هذه ليست حالهم إطلاقًا. هذه مراءاة نتنة، لو شعر بها الرسول، لَما كان كلّمهم على ما اختبره فيهم، لَما كان رفع صوته بمناداتهم: "يا أحبّائي".
هذا لا يعني أنّ الدنيا تخلو مِمَّنْ يمثّلون، ويضاعفون طاعتهم أمام عيون مربّيهم! لكنّ جوّ أهل فيلبّي، أو جوّ العلاقة التي تجمع الرسول بهم، لا تسمح لنا بأن نرمي عليهم عيبًا! إنّهم أناس وديعون، متواضعون، مطيعون ومجاهدون. وخير ما يؤكّد ذلك أنّ رسالته إليهم ضمّنها نشيدًا عن الربّ الذي تنازل إلينا تواضعًا، وأطاع حتّى الموت، موت الصليب (2: 6-11). بلى، أرادهم أن يقتفوا آثار فضائل ربّهم في غير وقت. ولكن، بلى أيضًا، قادته فضائلهم إلى أن يغنّي للمسيح على صفحات طيّبة خصّهم بها.
هل تسمح لنا كلماته بأن نشتمّ فيها شعوره بالخطر على حياته؟ ربّما. فرسالته، التي خصّهم بها، وضعها فيما كان سجينًا. من بعيد إذًا، من سجنه، استعجل نفسه، ليعلن لهم، في رسالة خاصّة، أمرين مترابطين: أن يفرحوا بالربّ، ويتّحدوا أخويًّا فيه. قلنا مترابطين عن قصد. فأنت لا يمكنك أن تفرح بالربّ حقًّا إن لم تربط مصيرك به وبإخوتك في المسيح بآن. هذا يؤكّد أنّ التربية، في المسيحيّة، إنّما إطارها أن نحيا في المسيح أخويًّا. إنّها حياة في الربّ الذي هو سيّد الإخوة وملتقى الإخوة. طلب الرسول منهم أن يضاعفوا الطاعة في غيابه، أي أن يبقوا، إخوةً، قائمين في فرح ووفاق وسلام.
هذه هي قواعد الحياة التي تليق "ببشارة المسيح" (1: 27)، التي ذكرها، وأتبعها بقوله: "لأعرف، سواء جئتكم ورأيتكم، أم كنت غائبًا فسمعت أخباركم، أنّكم ثابتون بروح واحد مجاهدون معًا بنفس واحدة في سبيل إيمان البشارة". ليس أحلى من هذا الوعد باللقاء الذي رجا، من ضباب سجنه، أن يتمّ عن قريب (2: 24).
بولس يعرف أنّهم يحبّونه. ولقد كلّمهم على لقاء قريب خوفًا من أن يأسرهم حزن عليه. ولكنّه ارتقى بهم إلى أن يطردوا كلّ خوف في حياة قويمة. الناس سيموتون. وأمّا القلوب التي خطفها الربّ إلى رحاب طاعته، فلا يقوى عليها موت. سأراكم، يقول، أو أرجو ذلك. لكنّني، إن رجوت شيئًا أعلى، فأن تعاملوني على أنّني حيّ في وسطكم دائمًا. هذا هو الحضور الذي يطمئنني إلى أنّني "ما سعيتُ عبثًا ولا جَهَدتُ عبثًا"(2: 16).
من براعة التربية السليمة أن يدرك المربّي، دائمًا، أنّ قبره مفتوح أمامه. هذا، من دون أن نبتعد عن حال بولس، لا يعوزه أيّ شعور بالخطر. هذا يفترضه واقع الحياة. إن أردتَ أن تُسهم في تربية سواك، يجب أن تعرف أنّ الناس لا يتربّون، حقًّا، إن بقوا متعلِّقين بمربّيهم تعلَّقًا مريضًا، ومنه إن اعتقدوا أنّه لن يواريه تراب! يجب أن ينطلقوا. إلى أين؟ إلى الربّ وبعضهم إلى بعض. هذه هي أطروحة بولس في هذه الرسالة. بعيدًا منها، يبقون أطفالاً غير ناضجين تتجاذبهم كلّ صدمة، وتفتك بهم.
لا تعطينا كلمات بولس الحقّ بأن نُدخل في سياقنا كلامًا على إمكان سقوط المربّين. ولكنّنا، إن خرجنا عن حروف رسالته قليلاً، يذكّرنا هو نفسه، في رسالة أخرى، بأنّ "مَنْ ظنّ أنّه قائم، فليحذر السقوط" (1كورنثوس 10: 12). لم يسقط بولس. حاشا، حاشا! لكن، هل يمكننا أن نضمن أنّ جميع الناس لن يسقطوا، أي سيبقون مخلصين للمسيح ربّنا إخلاصًا لا يشوبه عيب؟ ما هو ضمان الطاعة في حال سقوط المربّي (الذي هو غياب من نوع آخر!) وفي حال ثباته؟ ليس من ضمان سوى هذه الأطروحة المذكورة.
هذه، إن أطيعت، هي علامة النضج الذي يريح السماء راهنًا وأبدًا. وهذا إنّما المربّي يُسهم فيه، إن التزم ما طرحه الرسول التزامًا تامًّا، أي إن انتهج أن يدفع الإخوة، دائمًا، إلى الربّ وبعضهم إلى بعض. هل نريد أنّ المربّي، إن لم يلتزم هذا النهج، ساقط حكمًا، ويجب أن يعلن سقوطه، أي أن يُستبعَد توًّا؟ أجل، هذا ما يجب. فخلاص الإخوة أعلى شأنًا من مكانة أيّ إنسان، أيًّا كان موقعه. هذا لا يقبل مزاحًا!
أمّا قوله "اعملوا لخلاصكم بخوف ورعدة"، فيكلّل أطروحته عينها. لن نستفيض في كلامنا على معنى "خوف ورعدة". فهذا واضح. إنّه، في هاتين اللفظتين، يفتح قلوبهم على حضور الربّ الأبديّ الذي يريدنا جِدّيّين في كلّ ما فيه خلاصنا. فقط، سنشير إلى أنّ عبارة "اعملوا" تفترض أن تُظهر الجماعة كلّها مسؤوليّةً عن كلّ عضو فيها. يريدهم جميعًا أن يعينوا في كلّ ما يضمن خلاصهم جميعًا. لا تقبل التربية الحقّ أن يطمئنّ الإنسان إلى مصيره وبعضٍ غيرِهِ. هذا وهْم لا ينجّي. كلّنا أمام الخوف والرعدة.
فالتربية، في الأخير، أن نسعى إلى أن يكون كلّ مَنْ في الجماعة على جَمال كلمات الرسول، أي طائعًا أبدًا.
ما زال بولس، حاضرًا، ينادي فينا: يا أحبّائي، اعملوا لخلاصكم باتّحادكم أخويًّا في الربّ.