الغنى الروحي للكنائس المسيحية في الشرق الأوسط_ الجزء الأول
للمطران بولس يازجيموضوع مداخلتنا هو الغنى الروحي للكنائس المسيحية في الشرق الأوسط. إن الموضوع، من وجهة نظرنا، لا يتعلق حصراً بفراداتٍ فكرية لاهوتية، وإنما أيضاً بالظروف التاريخية للمنطقة. فبما أن اللاهوت المسيحي وفعله هو تاريخ حوادث وليس مجرد معتقدات، وبما أن الإيمان والحياة عاملان متأثّران مترافقان غير منفصلين يصوغ كل منهما الآخر، لذلك سنحاول الإحاطة بالميزات الإيمانية والتاريخية لكنائس هذه المنطقة، والتي تعطيها اليوم غنىً مميزاً ودوراً هاماً.
. الغنى الروحي اللاهوتي:
والمقصود هنا باللاهوت الشرقي للكنائس الأم، الذي لم يبقَ بمعزل عن تأثير اللاهوت الغربي منذ زمن الإرساليات. تتميز الكنائس الشرقية بفرادات تجعل دورها غنياً ومنها:
. ميزات جغرافية: إن المكان والزمان عنصران بأهمية أكبر مما نظن أحياناً لفهم الرسالة المسيحية. يعرف المفسرون للكتاب المقدس أهمية العقلية الساميّة والعناصر الثقافية والاجتماعية الشرقية على مسيرة تفسير الكتاب المقدس. فأهل فلسطين وصور ولبنان وسوريا... يعيشون حوادث الكتاب المقدس في مكانها. ميزات اجتماعية: أهمها النظام "البطريركي"، والمعني به خاصةً، البنية العائلية في فلسفة الكتاب المقدس وحوادثه، البنية التي مازالت حيّة وأساسية في حياة الإنسان الشرقي.
هناك أيضا الطابع النسكي المماثل، فبعد 2000 عام يمارس المسيحيون الشرقيون العبادات والنسك المماثل لبني زمن الكتاب المقدس، من ناحية الطقوس في زمنها وفصولها وطبيعتها، والأصوام والأعياد...الأمر الذي يغيب في الغرب.
هناك العبادة "القلبية" التي تحولت في الغرب إلى عبادة "عقلية". القلب هو ساحة اللقاء بين الله والإنسان في الكتاب المقدس، لا العقل. القلب مركز الحياة عند الإنسان الشرقي. لذلك تنصهر العبادة القلبية عنده بسهولة كمجمل العلاقات البشرية. القلب عند الساميين غير "النوس" في الهيلينية والأوروبية الحديثة وريثتها. الحياة الروحية الشرقية ليست أبداً الحياة الخلقية المسيحية فقط. المسيحية دين وجودي كينوني وليس علمَ اجتماع، وإن كانت الأولى تصلح لتوجيه الأخير.
"قراءة الكلمة" ومفهوم الكتاب المقدس في الشرق مختلف تماماً عن مفهوم "الكتاب" عند أهل الكتاب أو عنه عند بعض الغربيين. فالكتاب المقدس لدى الشرقيين هو كتاب الجماعة المسيحية أكثر منه "كتاب الله"، أي يُفهم في شركة القديسين ويعاش مشروحاً في حياة الكنيسة، وليس ككتاب مبادئ دينية يُدرس ويفسَّر.
الرعاية" هي الفعل الحقيقي "للكلمة" ومكان عملها. كلمةُ الله تُفرَّغ عندما لا تمارَس، لذلك الكتاب دون رعاية هو مصحف تاريخي وليس "كلمة الله".
من هنا نجد أن الكنائس في الشرق الأوسط تتميز برعايةٍ مباشرة لأولادها وتبنِّي لمسائلهم الحياتية كلها، والانتماء إليها ليس مجردَ انتماءٍ طائفي أو عقائدي بل وجودي، إذ يشعر المؤمن أن حياته من حياتها ووجوده من وجودها وشهادته من شهادتها ودوره جزء من دورها.
تبرهن الإحصائيات ذلك، فنسبة الممارسين والشباب وتوافد الأطفال إلى التعليم الديني، بالإضافة إلى عدد المؤسسات العلمية من الجامعات والمدراس، والمؤسسات الاجتماعية التي لا تعد والأخويات والجمعيات التي لا تحصى أشكالها ولا أعدادها، هي بنسبٍ مرتفعة جداً. إذاً إن الكنيسة فاعلة وشاهدة في العالم، تلعب دورها الرعوي وتأخذ حيزاً كبيراً من الأدوار الأخرى التي كان على الدولة أن تقوم بها ولم، بسبب الأوضاع السياسية في المنطقة والعجز في العالم الثالث. ليست الكنيسة إذاً مكاناً لفهم مبادئ وحسب، بل هي طريقة الحياة بالنسبة لكل مؤمن.
هذا الدور الرعوي يجسّد اللاهوت الشرقي في التركيز على مفهوم "الكنيسة المحلية". فالكنيسة ليست مؤسسة عالمية ينتمي إليها أفراد قلائل أو كثيرون. الكنيسة هي العائلة، هنا، في مكان محدد، تشبه اجتماع المسيح مع الرسل على مائدة العشاء السري. فالأعضاء يعرفون بعضهم البعض والرب يسوع في وسطهم متمثّلاً دوره بدور الكاهن أو ما نسميه "الأب" الروحي الذي يفيض بعمله الرعوي على الجماعة المؤمنة والشاهدة أبوةَ الله وحنانه وكلمته خاصة في الليتورجيا. الكنيسة إذاً ليست جماعاتٍ بل عائلاتٌ صغيرة حول "الحمل" الذبيح.
· الإسخاتولوجيا عنصر حي في الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية. ليس كانتظارٍ سلبي، بل كعنفوا وشعور حي لحظي يجعل المؤمن لا يقبل بسهولة التنازلات ويرغب بشدة أن تتحقق في مجتمعه هنا والآن صورةُ ملكوت الله ولو جزئياً.
إن خضوع كنائس منطقتنا إلى الفتوحات العربية الإسلامية والحملات الصليبية، ثم للسلطة العثمانية والتبشير الغربي بعدها، كلها ظروف "قصّرت الأيام" عليها، مما جعلها تفقد الكثير من جماليات الطقوس والأعياد من ناحية، لكن من ناحية ثانية جعلت هذه "الضيقةُ" اللاهوتَ في نظرياته والعبادةَ في طقوسها يتعرضان دوماً في هذه الكنائس إلى تنقيةٍ وتجديد. فكل ما ليس ضرورياً جداً للحياة يسقط عندها بينما تحافظ بسهر ووعي على "وديعة الإيمان" الذي يقود الحياة، وبذلك تتفوق مراتٍ عديدة على شقيقاتها من الكنائس الشرقية المذهب (الأرثوذكسي) في الغرب، والتي تعجّ حياتها بالتقاليد الشريفة، ولكن تتفكك فيها الروابط بين الطقس والحياة وبين الممارسة الكنسية والممارسة اليومية، وينفصل الوجود الشخصي عن حياة الكنيسة. إن كنائسنا أقرب إلى صورة كنيسة أعمال الرسل منها إلى كنيسة أمبراطوية، وهذا صفاء.
هذه الضيقة التاريخية علّمت الكنيسة الشرقية أن تنجو في التاريخ بالجوهر وأن تكون قابلة للتحرر من الروابط الأخرى، فتحفظ الإيمان حراً من قبل التقاليد وفوق الارتباطات الإثنية أو الاجتماعية. إن خسارتها تستطيع أن تصير ربحاً له
تــــم نقـــل هذا المنتدي إلي موقع آخــــر ... 
الثلاثاء يناير 21, 2014 12:38 am
