عدم المشاركة في إيصال العنف
هناك فرق شاسع بين إبراز الحقيقة وإظهارها وبين الحديث المتكرّر عن العنف وتسليط الضّوء عليه باستمرار ونشره بانتظام والحديث عنه في كلّ الأماكن وكلّ الأوقات. إظهار الحقيقة يفترض الحكمة والصّفاء الذّهني والاتّزان العاطفي، والتّحليل الهادئ والمنطقي، ومقابلة الإيجابيّات بالسّلبيّات والمناقشة البنّاءة.
وأمّا التّركيز على نقل مشاهد العنف والإذلال وترسيخه في النّفس الإنسانيّة فهو مشاركة عن وعي أو عن غير وعي بهذا الهدم الممنهج للإنسان. ما هي نسبة الاستفادة من مشاهدة صور أو أفلام دمويّة تظهر مرتزقة وبرابرة يذبحون النّاس وتبيّن لنا مراراً وتكراراً درجة الانحطاط البشري؟
وما هي أهمّيّة قراءة مقالات متشابهة أو تحليلات سياسيّة تثير فينا الحقد الطّائفي والمذهبي وتعزّز فينا ردّات الفعل الغرائزيّة وتزيد من خوفنا على مصيرنا؟ وما هو الهدف من نشر هذه الأفلام أو هذه الصّور أو حتّى هذه المقالات؟ إذا كان الهدف كشف الحقيقة، فهذا الواقع المرير والمقيت بات معروفاً لدى الجميع، والكلّ يعيشه ويتأثّر به سلبيّاً وينقله إلى الآخر بردّات فعل عصبيّة واضّطرابيّة مع اليقين الحتمي بأنّ أيّاً منّا لا يملك الحلّ الجذري للقضاء على هذا الواقع.
وإذا كان الهدف كما سبق وذكرنا إثارة الرّأي العام فإلى يومنا هذا، ملايين النّاس مشرّدون خارج أوطانهم، وآلاف يُقتلون جسديّاً ومعنويّاً ولم يرفّ جفن العالم، ولم تتأثّر السياسات العالميّة والدّول العظمى ولم تتصرّف إلّا وفق ما يناسب مصالحها. فعمّ نبحث إذاً في هذا كلّه؟
إنّ الاستمرار في تلقّي العقل لهذه المشاهد العنيفة والصّور المقزّزة والسّماح لها بتحجير العاطفة أو تحويلها إلى عاطفة هشّة لا تجيد إلّا الشّفقة ولا تثير إلّا الخوف والرّيبة ستخلق منّا أشخاصاً خنوعين ومستسلمين أو حاقدين يحضّرون أجيالاً حاقدة ويحرّضونها على المزيد من التّشرذم والاقتتال.
الخوف والاضّطراب سيخلقان في داخل الإنسان شاء أم أبى وحشيّة مماثلة لتحصين نفسه ممّا يجهله أو ممّا هو قادم، وبالتّالي سيفقد إنسانيّته رويداً رويداً حتّى تتلاشى وتمّحي. بالمقابل ستعزّز في داخله عجزه وضعفه تجاه مواجهة هذا العنف، فأمام هذه المشاهدات نحن عاجزون تماماً عن الإقدام على أيّ فعل. البعض يتسمّر طوال الوقت أمام شاشات التّلفزة أو يمضي الوقت في وسائل التّواصل الاجتماعيّ في مشاركة هذا القبح بحجّة كشف الحقيقة وما شابه دون أن يغيّر شيئاً، لأنّه لا يستطيع أن يغيّر شيئاً.
هذا العجز سيتعاظم مع الوقت وإمّا يخدّر العقل ويمنعه من الارتقاء والتطوّر وإمّا يوجّهه للبحث عن أمور مشابهة. ومن بحث إلى آخر، الوقت يمضي وإنسانيّة الإنسان تضمحلّ شيئاً فشيئاً. في هذه الأزمة العصيبة، المطلوب أن ننقذ إنسانيّتنا حتّى تتمكّن من الاستمرار في النّموّ لتبلغ مقاصدها الّتي وجدت من أجلها.
وبدل أن ننشر العنف والقتل والذّبح والتّرويج لهؤلاء المجرمين وزرع الكآبة في نفوس الآخرين، وجب علينا أن نساعد بعضنا البعض على البحث عن الجمال الّذي فينا وتشجيع بعضنا البعض على الثّبات والالتفاف والتّضامن، وبثّ الوعي في العقول حتّى لا نكون ممّن يشاركون في هذه الجرائم عن غير قصد.
ليس المطلوب ألّا نعبّر عن آرائنا وليس المقصود أن نرضخ للواقع ونلبث منتظرين بخمول مميت ما سيحصل، بل المطلوب أن نعبّر بعقلانيّة ووعي، ونثابر قدر المستطاع على تطوير إنسانيّتنا تحت أيّ ظرف.
فكما أنّ البعض يقاوم بشجاعة بقوّة السّلاح والإمكانيّات المحدودة غير آبه للموت وإنّما يتطلّع نحو الحياة، كذلك نحن، علينا أن نقاوم وندافع عن إنسانيّتنا حتّى نستحقّ الحياة.
لا نسمحنّ لأحد أن يقتل فينا جمالنا الدّاخليّ الّذي يولّد في عقولنا ونفوسنا الإبداع والتّألّق ويصفّي أرواحنا وينقّيها.
إنّ القصد ممّا يحصل من حولنا من عنف وقسوة ولا مبالاة هو تحويل الإنسان العربي إلى إنسان خاضع وطيّع ، لا يناقش ولا يعترض ويقبل كلّ شيء باستسلام كلّيّ، حتّى يكون التّحكّم به سهلاً وحتّى تكون استجابته لتحقيق المصالح سريعة في سبيل أن يحصل على الأمان والسّلام.