- يوسف النجّار -
" يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم إمرأتك،
لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس.
مت 1 : 20 .
1-- على مسرح التاريخ المسيحي، وفي الصفحة الاولى من الانجيل، ظهر هذا الرجل، على صفحات العهد الجديد كالنور الخاطف الذي لا يلبث أن يختفي، وكأنما هذا هو حظّه من الحياة ونصيبه من الدنيا. ولعلّ مشكلته الكبرى أنه ظهر الى جانب العذراء العظيمة، التي حجب نورها نوره، وشخصيتها شخصيته، رغم أنها انتسبت اليه، وعاشت معه، على قدر ما هو ثابت في الكتاب المقدّس، اثنتي عشر عاما على الأقل. على الرغم مما تحلّى به كلاهما من عظمة وجلال، وعلى الرغم من تفوّق العذراء الباهر، حيث أضحت كوكبا لامعا في كلّ أجيال التاريخ، فان كليهما كان لا بد أن يتوارى نورهما مجتمعيىن معا، مهما بلغ من الروعة والبهاء، أمام شمس البر يسوع المسيح.
ومع ذلك فان المُدقق في قصّة يوسف يكتشف أنه أمام انسان كان من أعظم الناس على الأرض، وانه كان قد عاش فقيرا يكاد يبلغ حظّه من المادة حظ العدم، لكن هذا الفقير كان من أنبل النفوس وأشرفها، وهو واحد من أولئك الذين يستطيعون أن يعلّموا الغير أن النبل لا يوزن بالذهب. ورغم أنه سليل الملوك، فقد جاء هذا الرجل الى دنيانا فقيرا الى أقسى ما يكون الفقر.
ومع ذلك فعندما لعب دوره كما يسجّله الانجيل، لعبه بنبل لا يعرفه سوى الشرفاء من بني الانسان، ويكفي أنه صمد أمام تجربة لم تحدث قط لغيره من البشر، ونعلم أنه اجتاز هذه التجربة وهو مرفوع الرأس والنفس. وعندما اتخذ هذا الرجل بضمّ العذراء اليه، كان وهو يدري، أو لا يدري يصنع القرار الذي صعد به سلّم الخالدين في كلّ الأجيال والعصور. كان مجد الرجل كلمة واحدة، انه ارتبط بالمسيح، ومن العجب أنه يظهر أول الأمر ، كما لو أنّ المسيح انتسب اليه، وفي الحقيقة أن مجده الابدي، كان في انتسابه هو الى المسيح.
2-- يوسف من هو : من الواضح أن رواية الانجيل تبيّن أن يوسف النجار يرجع في أجداده الى داود الملك العظيم المشهور، والى سبط يهوذا. ومن الواضح أنه كان فقيرا جدّا. وربما كان أفقر الناس في مدينة الناصرة. اذا ذكرنا أن المسيح عندما خرج من الناصرة، ترك لنا العبارة القاسية على النفس " للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار وأما ابن الانسان فليس له أين يضع رأسه " لو 9 : 58 . والتقدمة التي قدّمتها مريم -- زوج يمام أو فرخي حمام -- مت 2 : 11 . كانت تقدمة الفقراء.
ومن المتصوّر أيضا أن تقدمة الذهب التي قدّمها المجوس اعانته في رحلة الهروب الى مصر. كانت حرفته النجارة. وحسب العادة عند اليهود تعليم اولادهم حرفة ما فقراء كانوا أم أغنياء ويصبح " الذي اذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله " صبي نجّار في دكان صغير في مدينة الناصرة .
أليس من الواجب هنا أن نقف قليلا لنتعلّم أن موازين الله ومقاييسه تحتلف تمام الاختلاف عن موازين الناس ومقاييسهم. لقد بدأ المسيح رحلة الخلاص من دكّان يوسف النجار الناصري. ان يوسف كان فقيرا، لكنه كان بارّا يخاف الله ويطيع وصاياه، انه المرتفع التفكير، السمح القلب والمشاعر .
يوسف والسرّ العظيم : وجد يوسف نفسه ذات يوم أمام السرّ الذي انحنى الرسول بولس أمامه وهو يقول : " عظيم هو سرّ التقوى ألله ظهر في الجسد " 1 تي 3 : 16 . نعم كان هناك إيمان بالمسيّا -- المسيح -- الذي كان يحلم به كل اليهود. وكانت تتمنّى كل عذراء يهوديّة أن يأتي المسيح منها لتطوّبها الأجيال كلّها. ولكن العذراء لم يكن يخطر ببالها أن هذا الميلاد سيكون فريدا في ذاته خارقا للعادة بعيدا عن زرع البشر.
وعندما جاءها الملاك، كان السؤال البديهي : كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا؟ " لو 1 : 34 . كان التصوّر بأن المسيّا سيجيء بالصورة التي يأتي بها غيره من الناس مهما سمت عظمته. نعم لقد سبق أشعياء وتحدّث عن ميلاد المسيح من عذراء، ولكن كان من الصعب على البشر أن يفهموا فحواها العجيب. ومريم نفسها عندما أكّد لها الملاك الحقيقة أن " الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس " كان السيف يدخل الى قلبها لحظة بعد أخرى إذ كيف يصدّقها الناس، وكيف يقتنعون بروايتها وهي في سرّ عظيم لم يحدث في التاريخ البشري سوى هذه المرّة الواحدة ؟
3 – وهنا نتحوّل الى يوسف، وهو يسمع هذه الرواية ليدخل في أقسى صراع يدخله بشري بين العقل والقلب، وهو في مواجهة العاصفة التي هبّت عليه او الدوّامة التي تمزّق نفسه تمزيقا " فيوسف رجلها اذ كان بارّا ولم يشأ ان يشهرها " مت 1 : 17 ان كلمة يشهرها لم ترد في الانجيل سوى في موضعين هنا وفي قول الرسول بولس عن المسيح " اذ جرّد الرياسات والسلاطين -- أشهرهم -- جهارا ظافرا بهم فيه " 2 كو 2 : 15 . فاذا كانت العذراء نفسها تقول : كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا
. فماذا يمكن أن يقول الرجل الذي لم يرَ الرؤيا ولم يسمع صوت الملاك. والصعوبة تبلغ أقصاها، أن الرجل رغم فقره العميق، كان على استعداد أن يعيش بارّا أمام الله والناس مهما كان هذا على حساب عواطفه وقلبه.
ان عهد الخطوبة عند اليهود هو أشبه بالزواج. اذ يصبحان أمام الله والناس زوجين. فالفتاة التي تخون عهد الزوجيّة كانت ترجم. كانت المشكلة أمامه قاسية. كان أمامه سبيلان، للتخلّص من العذراء -- السبيل العلني -- مع ما فيه من تشهير فيعطيها كتاب طلاق، والسبيل الأخر هو السبيل السرّي، والثمرة التي تأتي تُحسب من مطلّقها. ويوسف كان يريد تخليتها سرّا. لكن الرجل البار صلّى ولم تذهب صلواته عبثا. وجاء الملاك الى الرجل وكشف له الحقيقة في حلم .
يوسف والخدمة المقدّسة : لم يكن يوسف يعلم وهو يستيقظ من نومه أن الله أعدّه لخدمة يمكن أن يحسده عليها العظماء في كلّ التاريخ. اذ أنه كان الشخص الثاني للعذراء في إيواء المسيح ورعايته وحمايته ورعايته. كان يوسف يعلم أنه من بيت داود. وان الأيام دارت به حتى وصل الى ما وصل اليه من ضيق وفقر. لكن مجده عاد ليتألّق بمجد لم يعرفه داود وجميع من جاءوا من نسله، إذ هو مجد المسيّا الصبي الذي كان عليه أن ينسبه اليه ويسمّيه يسوع مت 1 : 21 وكان هو حاضن المسيّا ومربيه وقد فاز بيته الفقير بهذا الشرف الذي لم يُمنح لأصحاب القصور في الأرض. نحن لا نعلم كم من السنوات عاشها يوسف مع المسيح. إذ لا نسمع عنه بعد الاثني عشر عاما الأولى من حياة السيّد المسيح .
وقد شاطر يوسف الصبي يسوع الحياة في بيت واحد. وارتبط اسم يسوع بالرجل في السجلات الرومانيّة وفي الحياة البيتيّة وفي الخدمات الخاصّة والعامّة.