سيمفونية الخلق
_ أثناسيوس الرسولي
إن النظام الواحد والتوافق بين الأشياء المتعددة وما بينها من اختلاف، يثبتان أن مَن له السلطة عليها هو واحد، فمثلاً إذا سمع أحد من بعيد أصوات قيثارة ذات أوتار متعددة ومختلفة وأعجب بتوافق نغماتها، حيث أن صوتها لا يحدث بسبب نغمات عميقة فقط أو من نغمات حادة فقط أو متوسطة، بل بسبب أن كل الأوتار تعطي أصواتها في توازن معاً، فانه سَيَخلُصُ إلى أن أوتار القيثارة لا تتحرك من نفسها أو أن هناك كثيرين يعزفون عليها، وإلى أن هناك فناناً موسيقياً واحداً - حتى وإن لم يَرَه - استطاع بمهارته وفنّه أن يُخرج من كل وترٍ صوتاً مناسباً في هذه النغمة المتوافقة. هكذا أيضاً إذا كان نظام الكون كله في توافق كامل دون أن يتعارض ما هو أعلى مع ما هو أسفل، أو ما هو أسفل مع ما هو أعلى، بل الكل يتَّحد في نظام واحد، فبالتالي لابد أن نفكر أن ضابط وملك كل الخليقة هو واحد لا كثيرين وهو الذي بنوره يضيء ويُحرِّك الكل ... لأنه حتى السفينة لا يمكن أن تبحر بطريقة سليمة لو قادها كثيرون ولم يمسك بدفتها قبطان واحد. والقيثارة التي يعزف عليها الكثيرون معاً لن تعطي نغماتٍ متوافقة طالما لم يعزف عليها شخص واحدُ فنان.
مَنْ يكون هذا الخالق، إن لم يكن آب المسيح، كلِّي القداسة والذي يفوق على جوهر كل الكائنات المخلوقة الذي يدبر كقبطان ماهر كل الأشياء بحكمته وكلمته ربنا ومخلِّصنا المسيح لأجل خلاصنا،
ويفعل كل ما يراه صالحاً؟
لأنه إن كانت حركة الكون لا يحكمها المنطق وكل الأشياء تسير بلا خطة لكان حسناً للمرء ألاّ يصدق ما نقول. أما إن كان قد خُلِقَ بمنطق وحكمة ومهارة، وهو مرتَّب في كل شيء، فيتبع ذلك بالضرورة أن الذي يسمو عليه وينظِّمه ليس إلاَّ كلمة الله.
ولا أقصد بالكلمة ... تلك التي ينطق بها البشر والمكونة من مقاطع تنتقل معانيها عبر الهواء، بل أقصد الكلمة الذاتي، الله الحي الفاعل، أي كلمة الله الصالح إله الكل. ومع أنه يختلف عن كل المخلوقات فإنه هو وحده كلمة الآب الصالح، الذي ينظِّم الكون وينيره حسب تدبيره.
وإذ هو الكلمة الصالح للآب الصالح، فقد أبدع نظاماً لكل الأشياء، موحِّداً معاً الأشياء المتضادة في نظام واحد متناسقٍ. وإذ هو قوة الله وحكمة الله فإنه يجعل السماء تدور، وقد علَّق الأرض ويثبِّتها بإرادته إذ هي لا ترتكز على شيء. ومنه تستمد الشمس صوءها وتنير المسكونة، والقمر يأخذ منه صوءه المحدود. وهو الذي يُعلِّق الماء فوق السحاب، ويجعل الأمطار تهطل على الأرض، ويحفظ للبحار حدودها بينما تكتسي الأرض بالخضرة وبكل أنواع النباتات ... لأن كل الأشياء كائنة بكلمة الله وحكمته ولا يمكن لأيَّ من المخلوقات أن يكون لها وجود ثابت دون أن تكون قد خُلِقَت بالكلمة.
على أنه وإن كان هو الكلمة بالفعل لكن - كما قلنا سابقاً - لا يُشبه كلمات البشر المكونة من مقاطع لأنه هو صورة أبيه غير المتغيِّره. ولأن البشر مكوَّنون من أجزاء ومخلوقون من العدم، لذا فإن حديثهم مركَّبُ وأيضاً زائلٌ. أما الله فهو كائن غير مركَّب (بسيط) ولذلك فكلمته هو أيضاً كائنٌ غير مركَّبٍ (وبسيط)، بل هو الله الواحد وحيد الجنس الصالح الذي خرج من الآب كما من ينبوع الصلاح، وهو ينظَّم كافة الأشياء ويضبطها معاً.
إذاً فأن كليَّ القدرة وكليَّ الكمال، القدوس كلمة الله الآب، إذ أنه حاضر في كل شيء فإنه بَسَطَ قدرته في كل مكان، وأنار كلَّ ما يُرى وما لا يُرى ماسكاً إياها بيده بقوةٍ دون أن يترك أي شيء خالياً من قدرته، بل على العكس فإنه يحيي كل شيء ويدعم كل شيء في كل مكان. كل شيء على انفراد وكل الأشياء مجتمعة، جاعلاً إياها في تناسق دون أن تتنازع فيما بينها ...
وبإطاعة كلمة الله فإن ما على الأرض يحيا وما في السماء ينتظم، وبفضله تتحرَّك كل البحار والمحيطات العظمى داخل حدودها المعيَّنة ... ولا يوجد شيء من الكائنات أو المخلوقات إلاّ وقد خُلِقَ بواسطته وعليه يعتمد، كما قال الرجل الناطق بالإلهيات: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله، كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان".
وكما أنه - على سبيل المثال - إذا ضبط فنان موسيقيٌّ أوتار قيثارة، وبمهارة جعل النغمات العالية متوافقة مع المنخفضة والمتوسطة مع النغمات الأخرى، فهكذا أيضاً أمسكَ حكمة الله الكون كقيثارة فجعل ما في الهواء متوافقاً مع ما على الأرض وما في السماء متوافقاً مع ما في الهواء، موحِّداً الجزء مع الكل محركاً كل الأشياء بواسطة الريح حسب إرادته مكوناً هكذا كوناً واحداً له نظامه الواحد بروعةٍ وتناسق. أما هو فإنه يظل غير متحرك مع الآب مع أنه يحرك كل الأشياء بتوجيهاته وفق مسرَّة أبيه ...
لأنه بإيماءة وبقدرة الكلمة الإلهي لله الآب الذي يدير ويتحكَّم في الكل، تدور السماء وتتحرَّك الكواكب ... البحر يضطرب بالأمواج .. والأرض تستقر ثابتةً معطية ثماراً .. وكل الأشياء تحيا وتتحرك ... كل هذه الأشياء يعطيها كلمة الله نوراً وحياة ويحرِّكها ويرتبها بإيماءة منه منتجاً هكذا كوناً واحداً غير تارك أيضاً القوات غير المرئية بعيداً عن سلطانه .. يحفظها ويعطيها حياةً بإيماءة منه وبتدبير عنايته.
هكذا كلمة الآب ذاته، بإيماءة بسيطة منه وبقدرته يحرك ويحفظ الكون المنظور والقوات غير المنظورة واهباً لكل منها أداءه الخاص به ... أما هو نفسه، إذ أنه فوق الكل وهو ضابط الكل والملك وسبب ثبات كل شيء فإنه يفعل كل هذا لمجد أبيه، وليجعله معروفاً، وعن طريق الأعمال التي يعملها يعلّم ويقول: "بعظم جمال المخلوقات يبصر ناظرُها ويعرف من هو الخالق" (حك 5:13).
وكما أنه ونحن متطلِّعون إلى السماء مشاهدين نظامها ونور الكواكب، نستطيع أن ندرك الكلمة الذي نظمها. هكذا بالتفكير في الله الكلمة يستطيع المرء أن يفكر في الله الآب أباه، إذ أنه قد أتي من عنده، ولهذا يُدعى بالحق أنه مُفسِّر أبيه ورسوله.
وهذا يمكن أن يراه المرء مما يحدث بيننا أنه إذا ما نطق إنسان بكلمة فإننا نستنتج أن مبعثها هو العقل وبانتباهنا إلى هذه الكلمة نتعرَّف على العقل مصدر هذه الكلمة. هكذا أيضاً - مع الفارق في القياس بدرجة لا تُقدَّر - إذ نرى قوة الكلمة فإننا نُدرك أباه الصالح كما يقول المخلص: "من رآني فقد رأى الآب".
وكل ما جاء بالكتب المقدسة يشهد للكلمة، لعنايته الإلهية وتنظيمه للكون ... "بكلمة الرب صُنِعَت السماوات وبنسمة فيه كلُّ جنودها"، لأن كل الأشياء خُلقت فيه وبه. والكتب المقدسة تقول: "هو تكلم فصُنعت، هو أمَرَ فَخُلقت"، كما يؤكد موسى العظيم في بداية سرده لقصة الخلق قائلاً: "قال الله لنعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا"، لأنه أيضاً عندما كان يخلق السماء والأرض وكل الأشياء قال الآب:
"ليكُن جلد ولتجتمع المياه ..
ولتُنبت الأرض عشباً وبقلاً". وبسبب هذه النصوص يمكن للمرء أن يدين اليهود لعدم فهمهم الكتب المقدسة كما يجب. لأنه يمكن للمرء أن يسأل لِمَن كان الله يتكلم مستعملاً صيغة الأمر؟ لأنه لو كان وقتئذ يخاطب الأشياء التي يخلقها ويأمرها، لكان الكلام لغواً، لأنها لم تكن قد خُلِقَت بعد، بل كانت على وشك أن تُخلَق، ولا يمكن أن يتحدَّث مع ما ليس له وجود ولا أن يأمر ما لا يوجد لكي يُخلَق، لأنه لو كان الله قد أصدر الأمر للأشياء المزمَع أن تُخلق لكان قد قال : "كوني أيتها السماوات وكوني أيها الأرض واظهر أيها العشب وكن أيها الإنسان، لكن هذا لم يحدث، بل أنه أمر قائلاًك "نعمل الإنسان"، لينبت العشب". ومن هذا يتضح أن الله كان يتكلم عن هذه الأشياء مع آخر إلى جواره. ويتبع هذا إنه كان هناك آخر يتكلم معه الله عندما خلق كلَّ الأشياء.
فمَن إذا يمكن أن يكون هذا إلاَّ كلمته؟ لأنه مع مَن آخر يمكن أن يقال أن الله يتكلم إلا مع كلمته أو مع مَن كان معه عندما خَلَقَ كل الكائنات المخلوقة إلاّ حكمته التي قالت "لما خلق السماء والأرض كنت أنا معه" وذِكر السماء والإرض يتضمن أيضاً كل مخلوقات السماء والأرض.
وكونه هو الكلمة فهو يرى الله، هو الحكمة فهو يُوجَد معه، يَخلق كلَّ شيء ويرتِّبه ويعطيه نظاماً. لأنه هو قوة الآب فإنه يُ‘طي كل الأشياء قوة الوجود، كما يقول المخلص: "كل الأشياء التي أرى الآب يَعملُها هذه ايضاً أعملُها كذلك"، وقد علَّم تلاميذه القديسين أن "الكل به وله قد خُلِقَ". ولأنه هو المولود الصالح من الآب الصالح، وهو الابن الحقيقي فهو قوة الآب وحكمته وكلمته، ليس عن طريق المشاركة، ولا كأن هذه الصفات قد اكتسبها من الخارج كما هو الحال مع مَن يشتركون في طبيعته ويصيرون حكماء به وينالون منه قوة وتعقلاً، لكن هو الحكمة ذاتها والكلمة ذاته والقدرة ذاتها التي للآب. النور ذاته والحق ذاته والبر ذاته والفضيلة ذاتها، وهو يقيناً رَسْمه وبهاؤه وصورته. وبالإجمال هو قوة الآب الفائقة الكمال وهو وحده الابن صورة الآب غير المتغيَّرة.
وبينما هو كلمة الآب وحكمته، تنازل إلى رُتبَة المخلوقات لكي يُعرِّف العالم بمَن وَلَدَه فيدركه. لأنه هو التقديس ذاته والحياة ذاتها والباب والراعي والطريق والملك والمرشد ومخلِّص الكل واهب الحياة والنور ومدبِّر الكون كلّه. ولأن الآب له ابن كهذا مولود منه، صالح وخالق، فإنه لم يخبئه عن نظر خلائقه، ولكن يُظهره للكلِّ يوماً فيوماً لأن بواسطته يَخلِقُ ويُعطي الحياة للكل. لأن فيه وبه يعلن ذاته كما يقول المخلِّص: "أنا في الآب والآب فيَّ"، وبناءً على هذا القول يكون الكلمة في ذاك الذي ولده والمولود كائن مع الآب إلى الأبد.