محبة الأعداء
سلوان الآثوسي
لكي ما نصل إلى حب الله، علينا حفظ كل ما أوصانا به السيد في الإنجيل.
يجب أن نملك قلباً شفوقاً مترفقاً، وذلك يعني لا أن نحب البشر فقط، بل أن نحترم كل خليقة، كل ما أوجده وخلقه الله.
آه ما أعظم الإنسان خليقة الله! فإذا رأيت أنه ابتعد وتاه، فعليك أن تصلي له بدموع لكي يرجع، إذا استطعت، ولكنك أن لم تقدر على ذلك، فتنهّد على الأقل لأجله أمام الله، لأن السيد يحب النفس التي تنفعل بهذه الطريقة، فهي هكذا تصبح مشابهة له.
هكذا صلى الأب باييسيوس من أجل تلميذه (بعد أن أنكر المسيح وتزوج بامرأة يهودية) حتى يغفر له السيد. والسيد الرب ارتضى هذه الصلاة المقدمه له، بل أراد هو بذاته تعزية خادمه، فظهر له قائلاً: "يا باييسيوس، لماذا أنت تصلي من أجل الذي أنكرني؟"، لكن باييسيوس قال: "يا سيد أنت رحوم ومتعطف، سامحه". فأجابه الرب: "آه يا باييسيوس إنك بحبك شابهتني"، وهكذا ترضي السيد الرب الصلوات لأجل الأعداء.
(ملحوظة: الأب باييسيوس عند الروم الأرثوذكس هو الأنبا بيشوي حبيب مخلصنا الصالح، وقصة اسحق تلميذه الذي أغوته امرأة يهوديه، وصلاة الأنبا بيشوي عنه، ورجوعه إليه، موجودة في فردوس الآباء)
إني أنا نفسي خاطئ كبير، لكني أكتب عن المراحم الإلهية التي عرفتها روحي بالروح القدس على هذه الأرض.
إن النفس لن تلقى السلام إلا إذا صلّت للأعداء. فالنفس الذي لقنتها النعمة الإلهية الصلاة تحب بتعطف جميع الخلائق، وخاصة الإنسان.
إن السيد تألم على الصليب من أجل جميع البشر، وكانت روحه قلقة لأجل كل فرد منّا.
علمني السيد الرب محبة الأعداء. فإذا حرمنا من النعمة الإلهية فلن نستطيع محبة الأعداء، لكن الروح القدس يعلّم الحب، وهكذا نمتلئ شفقة ورأفة حتى على الشياطين، لأنهم انفصلوا عن الخير، فقدوا التواضع وحب الله.
إني أرجوكم وأستمحيكم أن تجرّبوا هذا. إذا أغضبكم أحد وأحزنكم أو إذا احتقركم، أو إذا أخذ منكم ما تملكونه، أو إذا اضطهد الكنيسة، فصلوا للسيد قائلين:
"يا سيد، نحن كلنا خلقتك، فاشفق على عبيدك وحولهم إلى التوبة"
هكذا فإنك تحمل النعمة في نفسك، وبوضوح كلي.
عليك أولاً أن تجبر نفسك وقلبك على محبة أعدائك: وإذ يلحظ السيد الرب نواياك الطيبة، فهو سيعينك في كل شيءن والخبرة ذاتها سترشدك. لكن الذي يفكر سوءاً بأعدائه، فإن حب الله لا يكون ساكناً فيه، ولا يكون قد عرف الله بعد.
عندما تصلي من أجل أعدائك يحل السلام فيك، وعندما تحب أعدائك اعرف بأن نعمة عظيمة تسكن فيك، ولا أقول بأن النعمة هذه هي في تمام كمالها، لكنها كافية لأجل الخلاص. لكن وبالمقابل، إذا شتمت أو أهنت أعدائك، فهذه هي العلامة أن روحاً شريراً يسكن فيك، وهو الذي يدخل إلى قلبك بالأفكار الشريرة، لأنه - كما قال الرب - من القلب يخرج كل فكر خيّر أو شرير.
إن الرجل البار يفكر هكذا: "كل إنسان يبتعد عن الحقيقة يتجه صوب فنائه". ولهذا فهو يشفق عليه. لكن الإنسان الذي لم يتعلم الحب من الروح القدس فإنه، وبكل تأكيد، لا يصلي لأعدائه.
أما الذي تعلّم الحب من الروح القدس فهو يتألم كل حياته من أجل الذين لا يخلصون، ويسكب الدمع مدراراً لأجل البشر، والنعمة الإلهية تمنحه القدرة على محبة أعدائه.
وإذا لم تحببهم، فعلى الأقل لا تزجرهم أو تلعنهم، فإن هذا بحد ذاته خطوة متقدمة. لكن إذا لعن الإنسان أعداءه وشتمهم، فذلك يعني بوضوح أن روحاً شريراً يسكن فيه، وإذا لم يتب، فإنه سيكون هناك حيث تسكن الأرواح الشريرة وحيث يبقيها الرب في العذاب ذاك.
إفهموا فهذا سهل جداً. إن الذين لا يعرفون الله، أو الذين يناهضونه، هم في حالة شكوى دائمة. فقلبي يتألم والدمع يسيل من عيني لأجلهم. بإمكاننا أن نرى بوضوح السموات والعذاب، ولقد عرفنا هذا بالروح القدس. والسيد يقول: "ها ملكوت السموات داخلكم" (لو 17). إذاً فإننا من هنا، من على هذه الأرض، نبدأ بعيش الحياة الأبدية، وكذلك العذابات الأبدية.
إن الكبرياء تفقدنا النعمة، أما بالنعمة فيأتي الحس بحب الله والجرأة في الصلاة. هكذا تتعذب النفس بالأفكار الشريرة، ولا تعرف أن عليها أن تتضع، أن عليها أن تحب الأعداءن فبدون هذا الحب، يستيحل علينا أن نرضي الله.
تقول: "إن العدو يضطهد كنيستنا المقدسة، فكيف بإمكاني أن أحبّه؟"،
وعلى هذا أجيب: "إن روحك المسكينة لم تعرف الله، ولم تعرف كم يحبّنا هو، وبأي شوق ينتظر توبة جميع الناس وخلاصهم. الله محبة، ولقد أعطى الروح القدس للعالم لكي يعلمهم محبة الأعداء والصلاة لهم حتى يخلصوا هم أيضاً. هذا هو الحب. لكننا إذا حكمنا عليهم بحسب أعمالهم، فإنهم لا شك يستأهلون التأديب والعقوبات".
المجد لله الذي يحبنا حتى المنتهى، والذي يسامحنا بروحه القدوس، ويغفر خطايانا ويكشف لنا أسراره.
أوصانا السيد قائلاً: "أحبوا أعدائكم" (مت 5)، لكن كيف يمكننا أن نحبهم عندما يفعلون الشر؟ أو كيف نحب أولئك الذين يضطهدون الكنيسة المقدسة؟
عندما كان السيد متجهاً إلى أورشليم، رفض السامريون أن يستقبلوه، فتحرك قلب يوحنا اللاهوتي ويعقوب لكي ينزلا الصواعق ونار السماء، حتى تفني ذلك الشعب. لكن السيد قال لهم بكل طيبة: "أنا لم آت لأهلك العالم بل لأخلصهم" (لو 9). هكذا نحن أيضاً، علينا أن لا نملك إلا فكراً واحداً: أن يخلص الجميع.
هكذا ترأف النفس بالأعداء، وتبدأ الصلاة لأجلهم، لأنهم تغربوا عن الحقيقة وذهبوا إلى الجحيم ... هذا هو الحب للأعداء. وعندما نوى يهوذا أن يخون السيد، أشفق الرب عليه وأظهر له ما هو فاعله، ونحن أيضاً، علينا أن نتصرف برقة وبطيبة مع الضالين، فنخلص برحمات الله.
إننا نعرف الحب بواسطة الروح القدس، والنفس تتعرّف على الروح القدس بالسلام وبالعذوبة.
آه كم علينا أن نشكر الله لأجل حبه العظيم لنا!
إني لا أفهم لماذا لا يسأل البشر أن يكون لهم سلام المسيح. إن السيد يحبنا لحد لا يرفض لنا اي طلب. مرات كثيرة لم أكن أعرف هذا وكنت أتساءل: هل سيهتم بي السيد، أنا الذي أغضبته إلى هذا الحد؟ إذ ذاك كانت تمتلئ روحي بالحب الإلهي وبعذوبة الروح القدس، ومع تلك الوفرة وذلك الدفق كنت أحس وكأن السيد يقول لي: "أتريد أن أمنحك بعد من حبّي ومن نعمة الروح القدس؟"، وكانت روحي تقول: "أنت ترى يا سيد إني لا أستطيع التحمل أكثر وإلا قضي عليَّ".
فإذا كانت رحمات الله غزيرة لهذا الحد، وحتى لخاطئ مثلي، فماذا نقول إذاً عن القديسين؟ آه ما أعظم النعم التي لهم!
ربما يتساءل البعض: "لماذا لا يحبني السيد أنا أيضاً فيمنحني نعمة كهذه؟". مثلما سأل ناسك القديس أنطونيوس: "لماذا أنت تبذل جهداً أقل منين لكنك معروف وممجد أكثر مني؟". على هذا أجاب القديس أنطونيوس: "لأني أحب الله أكثر منك".
ونحن أيضاً، علينا أن نفكر هكذا، إن الذي يحب الله، يحب قريبه أيضاً، كما يقول يوحنا اللاهوتي (ايو 4)، فعندما يحزننا أو يغضبنا أحد، علينا أن نصلي له كما نصلي لأنفسنا، وهذا يصبح عادة لدينا مع الوقت. بأنفسنا لن نستطيع أن نفعل شيئاً، لكن السيد يعضدنا لأنه يحبنا.
آه لو يعرف العالم ما هو حب السيد ... أنه في تلك الجموع التي ركضت وراء السيد وتبعته، فادفأ قلوبهم كلهم بنعمته. إن رحمته لا تفسّر. السيد يحب الخاطئ التائب، وبحنان يضمه إلى صدره هامساً: "أين أنت يا ولدي؟ إني أنتظرك منذ زمان بعيد". إن الرب ينادي كل البشر بصوت الإنجيل، وصدى صوته يدوّي في الكون كله: "تعالوا إليَّ، يا أيها المتعبين وأنا أمنحكم الراحة. تعالوا واستقوا من الماء الحي.
تعالوا واعرفوا كم أحبكم. فلو كنت لا أحبكم لما كنت دعوتكم. فأنا لا أستطيع تحمّل ضياع أحد خرافي. فالراعي تسلق الجبال لأجل خروف واحد باحثاً عنه في كل مكان.
ها كم العجب: الإنسان يحتقر أخاه الإنسان مثله عندما يكون فقيراً أو قذراً أو رث الثياب، لكن السيد يسامحنا على كل كل شيء، كمثل أم رؤوم بالنسبة لابنها. أنه لا يقصي أي خاطئ، بل يمنحه أيضاً الروح القدس.
لو يدرك البشر مقدار حب السيد لنا، لكانوا تخلوا وانصاعوا كلياً لمشيئته القدوسة ليحيوا مع الرب بسلام، كمثل أولاد الملك. إن الملك يهتم بكل شيء: بالمُلك وبعائلته وبأولاده.
أما الابن فيحيا براحة في القصر، الكل يخدمه وهو يفرح ويسّر بكل شيء، وبدون أي غم. هكذا فكل من يسلم ذاته إلى المشيئة الإلهية يحيا في السلام، راضياً بمصيره، حتى ولو كان مريضاً أو فقيراً أو معوزاً أو مقهوراً. يكون في هدوء وسكينة وسلام لأن نعمة الروح القدس تظلله، وعذوبة الروح القدس تعزيه، ولا يغتم إلا لشيء واحد: أن يغضب سيده المحبوب جداً.
في عصرنا هذا، الناس تحولوا عن الطريق القويم وصاروا قساة القلوب ومتصلبين، ولم يعد في الكون حب، لذلك أيضاً لا يحسّون بحب الله لهم، وذلك بسبب قساوة قلوبهم. يفكر البشر بأن الله مثلهم، وهم في بعض الأحيان يضيّعون الإيمان بالله كلياً.
آه! لو كان مستطاعاً لي أن أظهر لهم السيد لكنت قلت لهم: "أنظروا هذا هو السيد. ففي حضرة حبه، تصير النفس وكأنها الشمع الذائب". لكن ليس باستطاعتنا اكتشاف هذا الحب، ولا بذكائنا، فإننا لا نعرف ذلك الحب إلا بالروح القدس.
يا سيد إمنحني سكب الدموع على نفسي ولأجل العالم كله، حتى تعرفك كل الشعوب، وتحيا معك إلى الأبد.
يا سيد، إجعلنا أن نكون أهلاً لنعمة الروح القدس الوديعة المتواضعة حتى نتمكن من فهم مجدك.
روحي تتألم، وأني أسكب فيض العبرات، في داخلي رأفة على البشر الذين لم يدركوا بعد عظمة وعذوبة ووداعة القلب المتواضع.
في نفسي شهوة كبيرة: أن تظلل رحمة السيد جميع البشر، حتى يدرك العالم بأسره، يعرف الناس بأي حنان يحبنا السيد .. أنه يحبنا مثل أولاده الأعزاء جداً.
المرجع: القديس سلوان الآثوسي، للأرشمندريت صفروني، ترجمة الأم مريم رئيسة دير القديس يوحنا المعمدان بدوما، منشورات التراث الآبائي، بيروت.