رؤية مستقبلية للإعداد للزواج (2)
1- الطريقة العلميّة المتّبعة.
كانت مقاربتي وصفيّة، ومبنيّة على متابعة المجريات الواقعيّة، الأمر الذي أدّى إلى بعض الاستنتاجات التي بدورها مُحِّصت من خلال نقدِ تحليليّ عَرَض للمصاعب وحاول إيجاد حلول ملائمة وسهلة التحقيق. انطلاقاً من عدّة تجارب، حاولت عدم الفصل بين العناصر النظريّة والتطبيق العمليّ، وكما هو معروف ومؤكّد، ففي العمل الرّعويّ، لا بدّ من إتّباع نهجِ منطقيّ، خاصةً وأنّ العقيدة لا تعطي مفاعيلها إلا من خلال التطبيقات العمليّة Praxis.
2- بُنية الأطروحة ومضمونها.
تقسّم أطروحتي إلى جزئين يعالجان في القسم الأوّل واقع الكنيسة المارونيّة، إيمان أتباعها، ومراكز تحضير الزواج، على أساس قدسيّة هذا الرباط. ركّزت في القسم الثاني على النقاط الحسّاسة في الزواج، كما وفي الإعداد، وعلى ما يشكّل مادةً للنقاش في الإطار المسيحيّ، كما هو مُعاش في الواقع اليوميّ. وفي القسم الثالث، وضعتُ أسسًا للمشاريع المتعلّقة بالعمل الرّعويّ العائليّ ومراكز الإعداد للزواج التي تُعتبر مساحة ورباط للأنجلة الجديدة حيث عيش الإنجيل بطريقةٍ معمّقة وجدّية. وهذا الهدف، وبدون أدنى شكّ، يأخذ كلّ معانيه ويتحقّق في رحاب الكنيسة، كَرَحمٍ للإيمان.
يصنّف هذا العمل الأكاديميّ ضمن إطار اللاهوت الرعوي. أشرت في الفصل الأوّل من القسم الأوّل للأطروحة إلى بعض أسباب الحرب اللبنانيّة وانعكاساتها السلبيّة على المجتمع اللبنانيّ لا سيّما على العائلة والثنائي والشباب. زِدْ على ذلك التأثير السلبي المباشر على زواج الشباب.
أمّا في الفصل الثاني، فركّزت على نقاط القوّة والضعف لأفراد "الطائفة المارونيّة" التي كانت في تلك الفترة على المحك، إذ تقلبت في ما بين المحافظة على القيم الأخلاقيّة أو إنفلاشها وعليه يتقرر مستقبل الموارنة، فكان الزواج بالمطلق، ضمن هذا الإطار ضحيّة تلك الأمور.
أما في الفصل الثالث فقد قمت بمقاربة تحليلية للعلاقة في ما بين المجتمع والإيمان، والعلاقة في ما بين سرّ الزواج والإيمان، من خلال تسليط الضوء على قدسيّة سرّ الزواج، مشددًا على رتبة الاحتفال بهذا السرّ وروحانيته، كما أظهرت أهمية هذه الرتبة في حياة الثنائي الإيمانيّة والرّوحيّة. وقد عرضت مطوّلاً الهيكليّة الحاليّة للإعداد للزواج ومراكز التحضير للزواج في عدد من الأبرشيات المارونيّة في لبنان.
حاولتْ الأطروحة أن تعالج موضوع الإيمان لا سيّما موضوع الإعداد لسرّ الزواج بمثابة مساحة للأنجلة الجديدة والتعمّق الرّوحيّ. فالإعداد لهذا السرّ المقدّس بطريقة جديّة ومنظمة، يُسهم في خلق مساحة ورباط أساسيين لتحقيق الأنجلة الجديدة ونشرها. من هنا أهمية التعمّق في واقع سرّ الزواج وتأثيره في حياة الزوجين. وبما أنّ الزواج له وجه إنساني بامتياز كان لا بدّ أن أتوقّف مليًّا حول الهيكلية الإنسانيّة وتركيباتها التي تعزّز أُسُس الحياة المشتركة وتدعم الالتزام.
عرضت في هذا الفصل نماذج عن حالات الثنائي وكيفية العيش لتحقيق نجاحات ممكنة. كما تطرّقت إلى أهمية الاختيار والقرار والمعرفة المتبادلة ضمن الحبّ الواعي غير القابل للتفكك سريعًا أمام الصعوبات والمشاكل.
أخيرًا وضعت تصورًا للإعداد للزواج كما لمراكز التحضير لسرّ الزواج، منطلقًا من اللاهوت الرّعوي. فالرؤية الجديدة والمستقبليّة مبنية على متطلبات وحاجات أبناء الكنيسة المارونيّة. فهي تركّز على مراحل التحضير البعيد، القريب، وما قبل الاحتفال بسرّ الزواج مع المحافظة على المبادئ الأخلاقيّة واستعمال الطرائق الحديثة واستخدام الوسائل والأساليب الناجحة من أجل تحقيق تلك المسيرة والهيكليّة التّي تصبّ في خدمة الشباب وإيمانهم. عندئذٍ تعطيهم المساحة المطلوبة لتعميق إيمانهم أو إكتشافه وعيشه وممارسته في حياتهم اليوميّة. تلك الرؤية الجديدة سوف تُبرز الزواج الكنسيّ وقدسيّته وأهميته في حياة المتزوجين وبالتالي تحفّزهم على إختيار الأفضل والثابت لحبّهم. فالزواج الكنسيّ هو قيمة مضافة لعيش الحياة المسيحيّة بكونه سرّ من أسرار الكنيسة فيما الزواج المدنيّ يبقى عقدًا مشروطاً تتحكّم به إرادة البشر.
وقد تسنى لي تقديم عدّة إقتراحات، مكّنتني لوضع رؤية جديدة، أتأمّل أن تكون ذات نفعٍ للكنيسة المارونيّة وللأزواج المستقبليين. في هذا الإطار، إرتأيت بأنّه من الضروري تفعيل الإعداد للزواج وتثميره، بحيث يواكب جميع مراحل الحياة، إنطلاقًا من النموذج المثال للأهل، يستقي الطفل إلهامه ويؤسس مستقبلاً، عائلته الخاصّة، إلى أن يلقى الدّعم الكافي من التربية المدرسيّة والمواكبة الكنسيّة التي تحضّره بدورها إلى استلام زمام مسؤولية الزواج. وفي هذا السياق، يكون الإعداد للزواج مثلّث الأبعاد: بعيد وقريب ومباشر.
الإعداد "المباشر" للزواج المارونيّ والمؤطّر للخطّاب (المخطوبين) قبل مراسم الزواج، سيُستكمل من الآن فصاعدًا بالإعداد "البعيد" و"القريب". أما العائلة، والمدرسة، ومواكبة العمل الرّعويّ العائليّ، فهم إلزاميًا مترابطون، وسيعملون، لتحقيق الهدف نفسه. وقد تبيّن أنّ الإعداد المعمّق والجديّ للزواج يشكّل عاملاً بغاية الأهميّة في التعبير الروحانيّ عن الإيمان، ويضع مداميك "الأنجلة" الجديدة.
في هذا السياق، يكون الإعداد للزواج "دربًا للإيمان"، من خلال نظرةٍ جديدة وتعمّقًا يعيدان صياغة الإيمان المعطى في العماد، والمغذّى بالتربيّة المسيحيّة، ويتوجّب على الكنيسة المارونيّة أن تزوّد المعمّدين غير الملتزمين بالإيمان، كي يتشبّعوا من روحه، ويعيدوا إكتشاف الهويّة المسيحيّة الحقّة. بمعنى آخر، إنّه من الأهميّة بمكان، العمل على إستعادة سرّ الزواج المرتبة التي يستحقها والتي تبرز أهميتها المتناميّة على الصّعيدين الاجتماعي والفرديّ. وفي هذا الإطار، يُدرك المقدمون على الزواج أهمية التزامهم، ويقتنعون أن حبّهم، المبارك من الربّ، مقدّر له أن يستمر إلى ما بعد الموت.
بالإضافة إلى ذلك، فالأنجلة الجديدة، والمبنيّة على التمرّس، لا بل التمرّس المتجدّد، تفرض مسارًا، يزوّد الإيمان فيما لو تحقّق، بنضجٍ منطقيّ ومتماسك ومن الضرورة بمكان في حياة المؤمنين. ولقد أضحى من المؤكّد أنّ الكنيسة المارونيّة ليست بإطار دينيّ عاديّ، بل هي ضرورة للمحافظة على المؤمنين. بمعنى آخر، الإعداد للزواج الذي تمنحه الكنيسة، يعمل لخلق أسرٍ متينة، وذلك من خلال تأمين ظروف معيشيّة مؤاتيّة للالتزام الصّلب والصامد أمام التحدّيات. وهكذا، فالرباط الزوجيّ يجسّده إتّحاد قادر على مواجهة جميع المعوّقات الحياتيّة، داعيًا بذلك الشباب إلى الامتلاء بإيمانٍ واعٍ، تلتقي جذوره بأسس الكنيسة. في هذه المرحلة، تجد الأجيال الجديدة نفسها مدعوّة للالتزام بقوّةٍ وحماس بمحن الحياة الزوجيّة.
من المؤكّد أنّه لولا مراكز الإعداد للزواج، لما كان لهذا التحضير تأثيرًا مماثلاً. وممّا لا شك فيه، أنّ هذه الأمكنة المعدّة للدورات التدريبيّة، هي بحاجة ماسّة للاستعانة بمؤهلات بشريّة وتكنولوجيّة رفيعة المستوى كي تعيد إحياء المؤهلات غير الماديّة والتي تُعدُّ حاجة ماسة إلى الكنيسة، كالوعيّ الأخلاقيّ، والتطوّر التدرّجي في الحياة الرّوحيّة وحقل الإيمان، والإنتماء الكنسيّ، والتمسّك بالهويّة المسيحيّة. إلاّ أنّ هذه المراكز غير قادرة بمفردها على تحقيق هذه المهمّة الكبيرة والصّعبة. ويلعب العمل الرّعويّ، في هذا الإطار، دورًا كبيرًا، خاصةً في الإطار التربويّ والتعليميّ، فهو يواكب المخطوبين في جميع مراحل إعدادهم، كي يعوا تداعيات إلتزامهم وأهمية دور الحبّ في حياتهم المشتركة.