“أعطني حصّتي…”
كلمة الله “كنزٌ مخفيّ”، مهما اكتشفنا منها يبقى ما يجدر أن يُبحَث عنه. لذلك علينا أن نطالها كلّ يومٍ أكثر. كلمة الله لؤلؤةٌ في يمٍّ عميق، علينا الغوص إليها، ومتى وجدناها بعنا كلَّ شيءٍ واشتريناها.
مثَلُ الابن الضالّ مِن أكثر الأمثال شهرةً وأقربها إلينا وأكثرها إلفةً معنا، يتكلّم عن نفسٍ بشريّةٍ خرجت ثمّ عادت، هربت من بيتٍ أبويٍّ ثم هربت من الكورة البعيدة إليه.
مَن قال “يا أبتِ أعطني حصّتي” قال “اقبلني…”! ما سرُّ هذا التبدّل؟ إنّها حرّيّة الإنسان، هي هبة الله لنا وهي فرادتنا عن الخلائق كلِّها. قد ترفعنا الحرية إلى أقصى درجات النجاح وقد تُحدرنا إلى أقصى دركات الفشل. فلنقدّس حرّيتَنا فتقدِّسنا حريّتُنا!
اختلطت المعاني على الابن الضالّ ونخلطها نحن أيضاً. لا نميّز بين العبوديّة والحرّيّة والإباحيّة.
“أعطني حصّتي”، أي أعطني حرّيّتي. لم يعدِ الابنُ الصغير يريد الالتزام بآداب بيته الأبويّ، ولا أن يُطيع أباه، ولا أن يعود إليه في قراراته. أراد أن يتحرّر، والحرّيّة هي الشوق العميق لكلّ نفسٍ بشريّة. أراد الإباحيّة؛ أن يعمل ما يحلو له وليس ما هو عرفٌ في بيت أبيه. ظنّ أنّه يخرج فيتحرّر. لكنّه سقط من حيث لا يدري في عبوديّةٍ أقسى. هناك كان عليه أن يطيع أباه وهنا أن يخضع لظالمٍ وراعي خنازير، هناك كان يأكل عجلاً مسمّناً وهنا عليه أن يأكل الخرنوب! هناك كان عليه أن يعود لعادات عالم البيت الأبويّ وهنا أن ينجرّ في عالم المتبرّئين من المبادئ المسيحيّة.
لا يوجد إنسانٌ دون مرجعيّة! لأنّ الإنسان منطقيٌّ ويملك رأياً، وهو يبني رأيه على أصولٍ يختارها ومبادئ يفضّلها! ليست الإباحيّةُ عكسَ العبوديّة. إذا كانت “العبوديّة” هي أن يستبيحك أحدُهم فالإباحيّة هي أن يستعبدك آخر! لا يوجد كائنٌ يملك منطقاً، يفكر، إلا وله مرجعية. حرّيّتنا ليست أن نكون دون مرجعيّات؛ لكن نحن أحرارٌ في اختيار مرجعيّتنا. أكثر الناس حريّةً على الإطلاق هو بولس الرسول الذي سمّى ذاته “عبد يسوع المسيح”. نحن أحرارٌ في أن نختار مبادئنا وليس في أن نتبرّأ من كلِّ مبدأ.
ظنّ الابن الأصغر حين غادر البيت الأبويّ أنّه يتحرّر وإذ به يُستعبد أكثر. تحرّر من مبادئ الإنجيل و”التصق” بمبادئ الأشرار. لذلك قولُ يسوع واضحٌ “لا يمكنكم أن تعبدوا ربّين، الله والمال”. لا بدّ أن نعبد، لكن بإمكاننا أن نختار، إمّا الله أو المال. الإنسان رجلُ الرغائب، فيه عشقٌ قويٌّ يجعله عبداً لما ومَن يختار! إنّه حرٌّ في أن يحدّد المرجعيّة ولا نظنّنَّ أنّه قادرٌ على اللامبدأيّة أو الإباحيّة.
كيف نختار مرجعيّتنا؟ كما اختارها الابن الضالّ بعد الاختبار. لقد عرف عبوديّةَ بولس الرسول وعرف من الخبرة عبوديّته للخرنوب ورعاة الخنازير، فقال “كم يفضُل في بيت أبي من خيراتٍ وأنا أتضوّر جوعاً…”.
لكلّ خَيارٍ في الحياة “ثمن”. والثمن هو هو، إنّه العشق البشريّ الثمين. أمّا ما يختلف فهو الثمار! يعدّد بولس الرسول ثمار عبوديّته المقدّسة للروح: “مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ، تَعَفُّفٌ”، (غل 5، 22– 23)، ويحذِّر من ثمار عبوديّة الإباحيّة الجسدانيّة: “زِنىً، عَهَارَةٌ، نَجَاسَةٌ، دَعَارَةٌ، عِبَادَةُ الأَوْثَانِ، سِحْرٌ، عَدَاوَةٌ، خِصَامٌ، غَيْرَةٌ، سَخَطٌ، تَحَزُّبٌ، شِقَاقٌ، بِدْعَةٌ، حَسَدٌ، قَتْلٌ، سُكْرٌ، بَطَرٌ” (غل 5، 19- 21).
نحن نلتزم؛ الالتزام هو في طبيعة الإنسان. ليس إنسانٌ بلا التزام. والالتزام هو عبوديّةٌ اختيارية، فهو إذًا “حرّيّة”. الحرية هي في أيِّ التزامٍ نختار!
ها نحن على أبواب الصيام، زمن التحرّر وزمن الالتزام، التحرّر من عبوديّات الدنيا والالتزام بعبوديّتنا ليسوع المسيح. فدعونا نعترف بحقٍّ أنّنا لطالما اخترنا “السيّد” مرجعيّةً لنا لكنّنا عبِدنا بأفعالنا سواه. “إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ، بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ” (رو 7، 15).
هنا لنصلِّ صرخة الابن الضالّ “اقبلني كأحد أُجرائك”. اقبلني عائداً بالتوبة إلى عبوديّةٍ تُحرّرني من إباحيّةٍ تستعبدني. خرجتُ هارباً من كلِّ شرطٍ بنويّ، وأعود الآن أطلبك بأيِّ شرطٍ ولو كأجير. قلتُ أعطني حصّتي، ظننتُها بعضاً من مالٍ يعطيني ما أريده فاستعبدني، وإذ بحصّتي في بنوّتي لك، وهي تعطيني حرّيّتي، فاعمل ما تريده أنتَ.
لقد خلقتنا يا ربّ توّاقين إليك ولن نرتاح إلا فيك، بهذه الصلاة نقدّس حرّيّتنا، آمين.