“من أهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل يخلِّصها”
تتردّد، في هذا المقطع الإنجيليّ الشريف، كلمةُ “نفس” عدّة مراتٍ. فمرّة نسمع يسوع يطلب منا أن نهلكها، وأخرى أن نخلِّصها! ونحتاج لانتباه كافٍ لنميِّز بين النفس التي يجب أن نكفر بها ونهلكها والتي تستحي به، والأخرى التي يجب أن نخلصها بحمل الصليب وهي أثمن من العالم كلّه، ولا يوجد فدية عنها، والتي تشهد بالمسيح وسيذكرها في مجد أبيه.
”النفس”، بالمعنى الأوّل التي يطلب يسوع منَّا أن نهلكها تعني: “أن ندبّر أنفسنا”، تعني المصلحة الخاصّة تجميع المال للذّات، إشباع الرغبات، إباحة الشهوات وما إلى ذلك… أي أن نسعى إلى تأمين “ما لأنفسنا” ونتناسى ما ليسوع وللآخرين. وواضح أن النفس التي يطلب منا أن نخلصها هي ذاتنا وحياتنا الحقيقيّة التي ولو ملكنا العالم كلّه لها فهو لا يستحقّها. وهكذا علينا أن نميِّز بين ما لنفسنا وبين نفسِنا. الفلسفات عديدة وكلّ منها يعطي تعريفاً مغايراً لمعنى الوجود. الأوّل يقول أنا أفكّر إذاً أنا موجود. وفلسفة عصرنا الحالي، فلسفة الاستهلاك تقول أنا أمتلك إذاً أنا موجود. أملك صحة إذاً أنا موجود، لأنَّ المرض شيء من العدم واللاوجود. أملك مالاً إذاً أنا الجبار والموجود، لأنَّ الفقر هو عدم ونسيان من الوجود. أملك أولاداً؟ إذاً أنا أستمر بالوجود. أملك مركزاً اجتماعياً؟ فأنا موجود. إذاً لأربح الوجود عليَّ أن أركض وراء تأمين هذه الأساسيات. يحارب الإنسانُ اليوم العدم بفيض الموجودات، ويشعر بالضمان في ضخامة الإهراءات ووفرة الصحّة والمجد. الوجود هو الحياة، وتأمين النفس يعني أن نضمن لها الوجود “بالموجودات”. هذه الفلسفة الاستهلاكيّة هي التي قالت في الإنجيل “يا نفس افرحي، لكِ خيرات لسنين عديدة”؛ لكن الربّ أظهرها فلسفة جاهل. الإنجيل واضح، إن “النفس” لا تتحقّق بأن نؤمن لها “ما للنفس- للذات”. إن ذاتنا ليست ممتلكات، و”أنا” غير “ما لي”.
“ما لي” هو ضمان لحياة الإنسان الذي يسعى ليدبر ويخلص نفسه ولو على حساب “ما أنا” لديه. وهكذا يركض ليربح العالم لنفسه، لأنَّه بامتلاك العالم يظن أنّه يؤمِّن نفسه. ويبيع نفسه فدية لذلك، ويستحي بكلام الربّ، وبالإيمان في الجيل الفاسق الخاطئ ليربح لنفسه مجداً أو مركزاً، أو مالاً، أو مصلحة، ويزيد مما لنفسه.
“ما أنا” فلسفة الإنسان الذي أحبّ يسوع، وعرف أنّه هو “الابن” وليس التاجر، أنّه الوارث وليس العامل. “ما أنا” هو إيمان المسيحيّ الذي يتنكَّر لأيّة مصلحة، أو مال “مِمَّا له” أو لكلّ العالم، ليربح ذاته وذاتيّته ولا يخسر هويّته في سبيل كسب ممتلكات له. إنَّ الأب، على سبيل المثال، الذي يدفع ابنه مُبكِّراً للعمل يبيعه، فقد ربح مالاً لكنّه خسِر خصوصيّته “أنَّه أبٌ”. الأم التي تبيع الإبنة لتربح أي شيء آخر لنفسها فقد ربحت من العالم وخسرت نفسها “أنَّها أمّ”. السياسيّ الذي يشتري ويبيع على حساب المبدأ، فإنَّه يربح لنفسه ولكنّه يهلكها. السفير الذي يروح في أرض الغربة يبيع ويشتري وكأنَّه من أهل تلك الدنيا الأجنبيّة يبني له بناء في أرض سوف يتركها فيربح أشياءً لذاته ليخسرها هي.
الإنسان بـ “ما هو” وليس بـ “ما لَه”. ذات الإنسان غير ما لذاته. المعنى الثاني للنفس إذاً هو: “ما أنا” وهذه فلسفة المسيحيّ الذي آمن بحكمة الحيَّات. حكمة الحيَّات كما يشرحها الذهبيّ الفم، ليست المحافظة على ما للذّات. يظنّ البعض أنَّ الحيّة حذرة ولا تسمح لأحد بأن يمسّها أو ينال منها؛ وأنَّها تدافع بسرعة عن ذاتها وتدبِّر بخفّة مصلحتها. حكمة الحيَّات عند فمّ الذهب تكمن في أنَّ الحيّة تعرف أين هي حياتها بالذات. لذلك عندما تضربها تعطيك الجسم كلّه وتخفي رأسها. وهكذا المسيحيّ هو كتاجر حكيم يبحر بتجارته في عالم أمواجُه مضطربة. حين يضطره الأمر ليحافظ على ذاته، إذا ما هاجت أمواج الحياة، يرمي بحمولته كلّها في البحر لينجو هو في السفينة. ماذا ينفع الإنسان لو حمل في تجارته العالم كلّه وخسر في البحر حياته. ماذا ينتفع الإنسان لو ضمن كلّ ما لذاته وفقد ذاته؟
يُوضح الإنجيل أنني موجود ليس حين أملك ولا عندما أفكر إنّما عندما أحمل الصليب وأتنكّر لِما لي، ولا أسعى وراء ربح عالمي إذا كان ذلك يضطرني لأستحي بالمسيح. “أنا موجود عندما أتبع يسوع”. هذه الفلسفة المسيحيّة الوجوديّة؛ إذا جاز التعبير.
“أنا من يتبع يسوع”؟ هذه هي ضمانة حياتي الوحيدة: أن أكون شاهداً له أميناً على الدوام، وسفيراً له حيثما كان، أنكر المصلحة لأنَّه ليس لي فيها مصلحة، وأنكر الممتلكات لأنَّها للسفر هي بمثابة أثقال. العالم لي هو دنيا للبشارة وليس للاستثمار. ضمانة حياتي هي الصليب وليس الطرق المعوجّة، وأمام هويتي “نفسي” فليس من فدية تقابلها.
نعم، إنَّ من أراد أن يخلِّص (نفسه) “بما لنفسه” يهلكها،
ومن أهلك ما لنفسه (نفسه) من أجل المسيح ومن أجل الإنجيل يخلِّصها.
آميــن