عهدك هو عهد الطموح والإصلاح، ولسوف تصلين الى مفارق عدة، فأي درب ستختارين يا ترى? فان شئت سموت وارتفعت، وان شئت سقطت الى أدنى درك. فاستعدي إذا لحياة لا تخلو من المشقات، واجعلي أيام شبابك نشاطا وبذلا وحرارة بما يليق بأجمل سنوات العمر، لان مرحلة الشباب فترة للزرع والبذار فتعهديها، واذا فعلت ضمنت سلفا اخصب الغلات واوفر الحصاد. اجعلي قلبك هيكلا طاهرا جميلا ...
يليق باستقبال ربك مبدعك، ليكن قلبك كقلب القديس شربل متطلعا إلى العلاء، إلى الأفضل والأكمل والأكثر خلودا.... أيتها الابنة الحبيبة اتبعي طريق )التأمل الشربليّ) لتكوني نورا يشع في الظلمات وطريقا يهدي من ضلّ السبيل).
بهذا التأمل والإهداء الإلهي والشربليّ (نسبة إلى القديس شربل) لابنته، استهل المؤلف جورج حايك كتابه الجديد )التامل، من وحي شربل)1، معتبرا ان شربل لم يكن حدثا عاديا في كنيسة المسيح، اذ انه رجل ظاهرة فريدة من نوعها في الطقس الالهي السرمدي: حبيس بسيط عاش متقشفا، منقطعا عن العالم في صومعة نائية حيث كان يقضي ليله ونهاره في الصلاة والتأمل والعمل اليدوي الصامت.
لم يكتب شربل مخلوف مذكراته ولم يدون نظرته في الله خالقه وفي الحياة على ورق، ولم ينقل الينا نظرته في التامل والصلاة عن يد أحد، بل عاش هذه النظرة في توق صادق من خلال تطبيق نصوص وروح الانجيل المقدس في حياته اليومية.
العديد من الاسئلة والتساؤلات طرحها جورج حايك، مما جعلنا نتساءل معه:
اين نحن من شربل? ماذا نفعل? واين القديس شربل من اساليب التأمل العقلي والنفسي التي تدعو الى السعادة? الى اين نحن سائرون? الى اين نقود نفوسنا في عالم منقسم، جامح ومضطرب? وكيف يمكن للقديس شربل ان يساعدنا?
برأي الكاتب حايك أن هذه الاسئلة لم يجد لها الاجوبة الصريحة والمباشرة في مؤلفات عدّة شكلت سيرة وحياة القديس شربل وروحانيته، الا ان معظم تلك المؤلفات أغفلت الموضوع الاكثر اهمية الا وهو: ماذا يمكن للانسان، كل انسان، ان يتلقى من شربل وكيف يتفاعل معه?
قلما نجد قديسا معاصرا عاش في زمن ليس بعيدا من زمننا وعلى الارض التي نقيم فيها وفي الظروف البائسة التي نمر بها، تأمل وصلّى الى الله بصمت رهيب حتى اوصله بذلك بان يرتقي لاعلى درجات القيم الروحية الخالدة. فكان بحق شربل المعلّم الصامت الذي بدلا من ان يدون مسيرته على ورق استبدلها باعمال وسيرة حياة حفرت في اعماق النفوس المؤمنة آثارا، لا يمكن محوها، والتي ما انفكت منذ أكثر من مئتي عام تتخذ من محبسته والدير الذي عاش فيه محجا لها.
القديس النسكيّ
يطالعنا المؤلف حايك في الفصل الاول من الكتاب عن )نسك القديس شربل) فيدخلنا الى عالم القديس النسكيّ، متوقفين عند كل عبرة واشارة يمكن ان تشكل درسا لنا عبر نهجه التأمليّ الفريد. ففي انسلاخه عن العالم وزهده بارادته وتشبث عقله، آثر ذاك الراهب القديس ان يرتاد ملء الله على ان ينقاد لغرور العالم، معترفا ان الاتحاد بالله هو اهم ما في الوجود. لذا اراد شربل بابتعاده عن العالم ان يقيم بينه وبين الله حوار الثقة والحضور الشخصي، غائصا في عزلة كلية ومصغياالى الهمسة الالهية: (انا الطريق والحق والحياة).
عاش شربل في زمن شبيه بزمننا الحاضر، ولم يكن زمنه أفضل من زمننا على صعيد الاستقرار، فأعطى الكاتب مقارنة منطقية وموضوعية في مضمون الفصل الثاني من كتابه تجلت بأحداث شهدها عهد شربل في القرن التاسع عشر حيث هزت هذا القرن أحداث خطيرة كالحروب والفقر والأوبئة والاضطهادات وتقلبات غيرت أوضاع الكيان الحكمي للدولة وما نجم عنها من انحلال خلقي وانفعالات وكراهية واحتقار من احتلال ابراهيم باشا لبلادنا، وثورة الفلاحين، ومجازر عام 1860، وقدوم الجيش الفرنسي، ونظام المتصرفية، وحروب يوسف بك كرم.
لكن رغم هذه الاحداث المتعاقبة ظل الابتهال والصلاة سلاح الفتى الفلاح المقيم في بقاعكفرا أعلى قرية في شمال لبنان فلم يكن بالتالي زمنه أفضل شأنا) من زمننا اذ بقي استمرار لتاريخ امة.
اما في الفصل الثالث من الكتاب، دعا الكاتب كل انسان الى سلوك طريق التأمل كما فعل شربل، لان هذا الانسان له القدرة والمقدرة الكافية التي اعطاها اياه الله لممارسة )التأمل الشربليّ) بحيث ان هذا الاختبار لا يقتصر فقط على الرهبان ورجال الاكليروس، شرط ان يكون الانسان معافى جسديا ونفسيا وقادرا على التمييز فكريا، لان حياة شربل درس عملي لنا، ذاك الراهب مارس التأمل امام معلمه السماوي المقيم فعلا في القربان المقدس، لقننا دروسا نحن بأمس الحاجة اليها.
أما الفصلان الرابع والخامس اللذان نعتبرهما مرتبطين ارتباطا كليا ووثيقا ببعضهما البعض، فقد صنف الكاتب الوسائل المساعدة التي تساند المرء في التأمل من حيث المكان والزمان، منها الاختلاء الذي كان الوسيلة الفضلى التي استخدمها شربل لضمان تغذية روحه بالتامل العقلي والاتحاد بالله.
بعد ذلك، استفاض الكاتب حايك عبر مضمون الفصل السابع عن كيفية مشاهدة شربل لله اثناء تأديته الصلاة، فعشنا معه هذا الانخطاف الروحي المتمثل بانتقال شربل للعيش مع محبوبه عبر الخيال. لم يكن يجد راحة ولا طمأنينة الا بالمكوث ساعات طوال مع السيد المسيح المتجسد أمامه في القربان المقدس. فيحادثه كالعاشق الولهان ويتنهد من اعماق قلبه محدقا به من دون ملل. انها فعلا مفارقة كبرى ان ينقلنا هذا الانخطاف من اهتمامات هذه الدنيا الفانية الى عالم آخر حيث يصمت القلب وتهدأ الافكار وترتاح النفس وادعة في حضرة الله أولنقل الى ذروة اقرب من الله!!
كل ذلك انعكس على سلوكه على نحو واضح، كان مسرورا بخالقه، لا يتذمر، بل بقي متجردا، قانعا وصبورا، لا يعتريه ملل أو حزن أو اضطراب أو خوف. تمتع بصفاء وسلام ثابتين مصدرهما القلب الشديد المحبة للاله المحتجب في سر القربان. حين كانت عينا شربل تنغلقان عن الدنيا ويسد اذنيه عن ضجة الأرض في انخطاف عميق، كان بلا أدنى شك ينزل الى قلبه ليشاهد الانوار في الاعماق ويصغي الى صوت الله، يناجي روحه بلغة المحبة، يناجيه قلبا الى قلب، فيرصّع حياته بقلب الحكمة التي تضم فيضا من المحبة والفضائل الالهية، فأدخلنا المؤلف بتلك الصور الالهية الى عالم لا نستحق أن ندخله لاننا متلهين بتفاهات هذه الدنيا، لا نفتش سوى عن حياة البذخ والترف والبسط والانجرار نحو الاسفل، انه عالم فاسد نبذه شربل منذ صغره ولم يفتش سوى عن عالم الله النقي الطاهر. هذا ما عبر عنه جورج حايك في الفصل الثامن من كتابه بصور برّاقة ادخلتنا فعلا ولو للحظة ملكوت السموات.
بعد مراجعة للفصل التاسع تساءلت في أعماق نفسي هل نستطيع أن نبني مجتمع قديسين يكون على خطى مار شربل?
الجواب يكمن في مدى التجاوب الذي يخلقه الانسان من خلال تركيز اهتماته نحو المسيح بدلا من توجيهها نحو الشهوات والملذات، فما الذي يمنعنا ونحن العائشين في جو مريم وأنطونيوس ومارون وشربل ورفقا والحرديني ويعقوب الكبوشي واسطفان نعمه واسطفانوس الدويهي أن نصعّد تأملاتنا الى الخالق صباحا ومساء شاكرين له عنايته الالهية?
ونتسأل أيضا مع جورج حايك في هذا الصدد:
ماذا يمنعنا من تجديد نمط حياتنا عبر الاعتراف باثامنا والتمرس بالصفح والغفران ودفع ايماننا بزخم أقوى من أجل اعادة بناء عالم جديد أكثر عدالة وانسانية ووحدة?
الجواب صريح وواضح هو اننا انزلقنا الى عالم المادة فلم يعد الانسان من هم لديه سوى شراء الافضل وجمع المال قدر المستطاع لكي يتغلب بواسطته على أخيه الانسان الضعيف, يتباهى انه يملك السلطة والقوة كي يفوز باعلى المناصب البالية المهترئة غير آبه بشفقة أو رحمة ترضي ربه السماوي.
المؤرخ أبي صعب
دفعني كتاب جورج حايك الى مراجعة ما سطره المؤرخ يوسف أبي صعب حول القديس شربل في بحث حمل عنوان )الطوباوي شربل حديث لبنان والعالم)، نشره في مجلة الرسالة المخلصية (عدد أيار سنة 1966) حيث تلاقت أفكار عدة وتطلعات روحية متقاربة مع بعضها البعض بين الاثنين. استنتجنا من رؤيتها الثاقبة بان النعمة التي اسكبها الله علينا بواسطة ابنه البار شربل ليست شفاء للاجساد، انما اعجوبته الكبرى هي ذلك الاشعاع الروحي، وتلك الهزة الدينية التي أحدثتها اخباره في جميع أنحاء العالم والدعوة الى الايمان والتوبة.
ومما قاله المؤرخ أبي صعب في هذا المدمار:
(..... هذه الحركة الدينية والروحية أوجدت انقلابا حيث الايمان والفضائل في الناس. وقد ساوى الله بنعمه بشفاعة الطوباوي شربل من دون تفريق في الدين أو المذهب أو الطائفة، فكلهم هناك أمام قبره أبناء الله تعالى يدعون. هذه الجماهير لا توقف زحفها على قبره لا وعورة طريق ولا رداءة طقس ولا بعد مسافة. وانما دافعها هو محبة المسيح والاقتداء بحياته على الارض، والى التشبه بحياة الطوباوي شربل التي كانت بسيطة مجهولة لم يعرف الا المحبسة التي تعلو عن سطح البحر 1400 مترا، حيث كان يختلي بنفسه مناجيا ربه، أمينا لنذوره، مثالا للطاعة وسيرته ملائكية أكثر منها بشرية .
ويتابع المؤرخ أبي صعب في فصل آخر من بحثه:
(عاش الطوباوي شربل في المحبسة ثلاثا وعشرين سنة كأنه ميت وهو حي، الى أن انتقلت روحه الملائكية الى خالقها في 24 كانون الثاني 1898، ومن عجيب الصدف انه في تلك الساعة عينها لفظ أنفاسه الاخيرة السعيد الذكر البطريرك يوحنا الحاج بطريرك الموارنة في بكركي، فكأن ملائكة الله الذين سبقوا فبشروا في تلك الليلة رعاة بيت لحم بميلاد المخلص هم انفسهم بشروا بأن ولد للسماء مولود جديد على قمة التجلي في جبل عنايا هو الاب شربل).
* * *
كم يلزمنا من التضحية والتقشف والانحباس الروحي كي نصل الى جزء ضئيل مما فعلته وتركته من قداسة وعطاء وصفاء وتعلق بايمانك المسيحي الذي نتمنى ونبغي أن يدخل أنفسنا بكل صدق وأمانة.
شربل رفعت اسم لبنان عاليا، وشعبه الى أسمى الدرجات الالهية، نسألك في الختام أن تطهّر المدنسين وأن تدخل الصفاء الى ضمائر المسوؤلين المفلسين روحيا لينقذوا لبنان من براثن الانحطاط والجهل.
جورج حايك تحديت كبار الكتّاب والمؤلفين والمبدعين باكتشافك نهج شربل الجديد، النهج المبدع والفريد، ولم تخطيء عندما اطلقت عليه )النهج الشربليّ) وذلك بعد دراسات معمقة وأبحاث كلفتك البحث والتنقيب والتفتيش في روحانية وصوفانية وترهب وتنسك ذلك القديس الذي كان صامتا في حياته ولكنه لم يبق كذلك بعد مماته، لانه سكن في نفوسنا وأعماقنا وأفكارنا التي باتت تعشق الغوص في ثنايا من كان خافيا طوال سنوات، فجئت أنت وأظهرتها للملأ علنا من خلال كتابك الجديد نكون قد وجدنا الجواب الشافي والكافي لتساؤلات ملأت اذهاننا منذ أن أبصرنا النور، نور شربل واشعاعه.
جورج حايك سلمت يداك التي خطت تأملات ومشاهدات شربل من وحي واقتداء وصمت وصلاة واستعداد روحي دائم وتوق لمشاهدة الله مع تمنياتنا في الختام كما تمنيته أنت، أن يصبح المجتمع المسيحي مجتمع قديسين على خطى شربل، المجتمع الذي استشرى فيه الجهل والانانية، استتبعها انحلال أخلاقي بحيث ازدهر الفساد. وزالت القيم الادبية، وتحكم به تجار البضائع المزيفة وأصحاب المصالح الخاصة، فاصبح بحاجة الى خريطة جديدة تعيده الى طريق القداسة التي سار عليها شربل قديس من لبنان.
شربل أنت عظيم من لبنان.
شعب لبنان بحاجة الى قداستك.