دير مار مارون
عشق الموارنة، عبر تاريخهم، سكن القمم، على الرغم من وعورتها وشظف العيش فيها. بجهدهم وعرق جبينهم فتتّوا الصخور، وحوّلوها حقولات زراعيّةً وجنائن. من تلك القمم، قمّة جبل عنّايا (جبيل- جبل لبنان)، التي ترتفع عن سطح البحر حوالي 1000م، وتقع على منتصف الطريق بين ساحل مدينة جبيا وأعالي اللقلوق.
بعد مقتل البطريرك جبرائيل الثاني من حجولا (1357-1367)، سنة 1367، تشتّت الموارنة وحلّ الشيعة محلّهم. لكنّ الموارنة عادوا فشاركوا الشيعة " مشاركة الشلش" لاسترجاع أملاكهم. ومن أؤلئك الشركاء عابدان: يوسف أبو رميا وداود عيسى الذي أصبح في الرهبانيّة الأب بطرس. استرجعا من الشيعة محلّة "رويسة عنّايا" (المحبسة حاليّاً)، وفيها آثار معبدٍ قديمٍ رمّماه في سنة 1811، وبنيا لهما في جواره مسكناً. وقف العابدان المكان للرهبانيّة ليمونا مشاركين في خيورهما الروحيّة، وذلك سنة 1814، في عهد الأب العام اغناطيوس بليبل (1811-1832)، الذي طلب تغيير اسم شفيع الكنيسة التي كانا يبنيانها، من إسم "التجلّي" إلى اسم الرسولين بطرس وبولس.
لكنّ هذه الوقفيّة لم تكن كافية لمعيشة الرهبان، كما لم يكن موقعها صالحاً لبناء ديرٍ، فاختارتها الرهبانيّة محبسةً، وبادرت، سنة 1820، إلى شراء الأملاك من السكّان. فنبت بعض "القلالي" وكنيسةً صغيرةً في موقع الحارة حيث كان "البيدر".
وسنة 1826، ابتدأ العمل على نقل الدير من محلّة القديم قرب "البيدر" إلى مكانه الحاليّ، وانتهى العمل في بناء الكنيسة الحاليّة للدير سنة 1828. وبين سنتي 1838 و 1841، تمّ بناء جميع القبية. وحلّت بالدير نكبةٌ، سنة 1842، وهي مهاجمة أهل بلدة حجولا للديّر ونهْبه وحرْقه وقت أحد رهبانه الأخ اسكندر الترتجانيّ. عند ذلك، هَجَره الرهبان فترة 15 سنةً متقطّعة حتّى سنة 1860.
بعد إنشاء الدير، ألحقت به المحبسة، وانقطع إلى العيش فيها رهبان تميّزوا في حياتهم الرهبانيّة بالبرّ والتقوى، كالأب أليشاع كسّاب، شقيق القدّيس الأب نعمة الله كسّاب الحرديني، الذي قضى فيها 44 سنة. ثمّ صار الدير دير ابتداءٍ، فأبرز فيه النذور الرهبانيّة ثمانيةٌ وسبعون ناذراً، بينهم الأخ شربل مخلوف (القدّيس شربل)، الذي أبرز نذوره في الأوّل من تشرين الثاني 1853، ومنه انتقل إلى دير القدّيسين قبريانوس ويوستين
كفيفان، ليتلقّى العلوم الفلسفيّة واللاهوتيّة، استعدادًا للكهنوت.
وبعد رسامة الأخ شربل (القديس شربل) كاهناً، في 23 تمّوز 1859، في كنيسة الصرح البطريركيّ في بكركي، عاد إلى دير عنّايا، فأقام فيه 16 سنةً، وبعد ذلك انتقل، بإذن الرؤساء، في 15 شباط 1875 إلى محبسة الرسولين بطرس وبولس حيث قضى 23 عاماً، وفيها توفّاه الله عشيّة عيد الميلاد المجيد سنة 1898 عن عمرٍ يناهز السبعين، ونقل جثمانه إلى مقبرة الدير العموميّة.
أجرى الله على يده عجائب كثيرةً ونعماً لا تحصى. فقدّمت دعوى تطوبيه إلى الكرسي الرسوليّ في روما، سنة 1926، وأعلنه قداسة البابا بولس السادس (1963-1978) طوباويًّا في 5 كانون الأوّل 1965 في ختام المجمع الفاتيكاني الثاني، ثمّ قدّيساً في 9 تشرين الأوّل 1977.
وفي سنة 1974، كان تدشين الكنيسة الجديدة، التي أُنشئت في المناسبة، على إسم القدّيس شربل. ولا تزال الرهبانيّة إلى اليوم تدخل على الدير إصلاحات، وتجهّز الساحات والقاعات، خدمةً للزوّار، وتلبيةً لحاجاتهم الروحيّة والزمنيّة، فقد أنشأت متحفاً خاصّاً جمعت فيه ثياب القدّيس الكهنوتيّة والأواني المقدّسة التي استخدمها، فضلاً عمّا تركه المرضى الذين حصلوا على نعمة الشفاء بشفاعته. ونظرًا إلى حاجات الزوّار المتزايدة، شيّدت بناءً قريباً من الدير، (oasis)، مستقلاًّ عنه، ليستقبل الراغبين في الصلاة والسكنى في جوار ضريح القدّيس.
في 20 كانون الأوّل 1997، افتتحت الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة اليوبيل المئويّ الأوّل لوفاة ابنها البّار القدّيس شربل (1898-1998) بقدّاس احتفل به البطريرك مار نصراللهّ بطرس صفير (1986-...) في كنيسة مار شربل – عنّايا.
واليوم، أصبح دير ما مارون- عنّايا، بفضل ضريح القدّيس شربل، مزاراً وطنيًّا وعالميًّا كبيرًا، يضاهي المزارات الدينيّة الكبرى في العالم المسيحيّ، حيث يقصده آلاف المؤمنين للصلاة والتوبة، وبتلبية حاجاتهم الروحيّة على أنواعها، كما تتوافد إليه الرسائل من كلّ أنحاء العالم، التماسًا لبركة قدّيس لبنان أو طلبًا لشفاعته..
شفاعة القديس مارون والقديس شربل معنا آمين +++