لماذا نصوم ونصلِّي في تلك الضيقة؟
أبونا الراهب سارافيم البرموسي
لماذا نصوم ونصلِّي في تلك الضيقة؟
في البداية دعني أذكّرك بأنّ يوحنا ويعقوب طالبا الربّ أن يسمح لهما بطلب نار تنزل من السماء لتهلك تلك القريّة السامريّة التي رفضت ضيافة يسوع؛
“وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ.
فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهاً نَحْوَ أُورُشَلِيمَ.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا قَالاَ:
يَا رَبُّ أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضاً؟.”
فما كان منه إلاّ أن احتدّ وقال “لستما تعلمان من أي روح أنتما”، أي أن تلك الروح ليست من تلاميذي ولكنّها من المهلك!! وأضاف أنّ ابن الإنسان لم يأت إلاّ ليخلِّص البشر..
“لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ بَلْ لِيُخَلِّصَ”
(لو9: 53-56)
من هذا المنطلق نصلي ونصوم ونتضرّع، لا لينتقم لنا الله بنارٍ تنزل من السماء تروِّع الذين ظلمونا وقسوا علينا، بل لكي يجدّد الربّ العقول والقلوب لتراه كسيّد الخليقة وضابط الكلّ، وأنّ البشر لا يستطيعوا أن يجرحوا جسده؛ الكنيسة، دون أن يعادوه هو رأسًا..
أنت تصلّي وتصوم أولاً لتكتشف إلهك، في قلبك، في أعماقك في عالمك الذي غاب عنه النور زمانًا طويلاً.. وحينما يبدأ النور يحطّ على قلبك تبدأ ترى ذاتك الحقيقيّة وكيف شردت وابتعدت عن النبع الصافي، فتبدأ أولى لحظات توبتك بالتوجُّه لله لكي يعيد ترميم ما قد تهدَّم على مرّ السنين من يوم الميلاد الجديد، المعموديّة، وحتى تلك اللّحظة..
وحينما يدخل الله إلى عالمك أول ما يفعله يجدِّد مفاهيمك التي طالما كوّنتها بعيدًا عن الحقّ، وإن ظننت أنك في الحقّ وتتبع الحقّ، فما نعتنقه من مبادئ لم تكتبها أنامل الروح على القلب، لن تستطيع أن تريح الإنسان الممزق من فرط التناقضات التي تحيط به، بل ويصرخ من اللاّمعقوليّة التي تضغطه من كلّ صوبٍ وحدب..
تجديد المفاهيم يبدأ من خلال رسم صورة جديدة له في قلبك، عوضًا عن الصور التي طالما استعرتها من آخرين!! نعم فالله الذي نسمع عنه ونتخيّله يختلف عن الله الذي نختبره في أعماقنا في كياننا الداخلي. تجديد المفاهيم سيرسم الله كإله محبّ يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحقّ يقبلون، وهذا يعني أنّه لا يشاء موت وهلاك وفناء الخاطئ بل عودته للحياة..
تلك الحقيقة حينما تترسّخ في قلبك تبدأ في إدراك مشيئة الله من أجل من يعادونك ويضطهدونك بل ويتآمرون لموتك.. الله يريد أن يغيّرهم ويحوّل قلوبهم رجوعًا إليه؛ فالانتقام الأعظم من الشرّ هو تَحَوُّله إلى الخير ليتعمّد في النور ويصير نورًا.. وقتها تخسر الظلمة بقعة فناء..
نحن نصلّي ونصوم ونتضرّع إذًا في تلك الأيام لا ليتصرّف الله وفق أهوائنا التي تريد أن تنتقم يد القدير بشكلٍ له صورة حربيّة وقتاليّة، بل لكي يستعلن مجده في الكنيسة من داخل بالرجوع إلى الله وما يستتبعه من قوّة صمود إيمانيّة تواجه الموت والألم بقوّة الخلود في المسيح. وأيضًا لكي تبصر الأمم من هو الله الذي نتبعه؛ فإلهنا هو الملجأ الذي يتمنّع فيه الصديق من سهام إبليس المتّقدة نارًا والمطلقة بأيدي البشر..
هذا لا يعني أبدًا أنّ الله لا يعاقب الأشرار ولا ينتقم لأولاده من الظلم وسفك الدماء. كلّ قطرة دم محسوبة عنده وسيطالب بها سكّان الأرض ممّن سفكوا تلك الدماء البريئة.
ولكن طلبتنا نحن شيء، وآلية الله في التدخُّل شيء آخر، فقد يرى الله أن إعلان مجده يتأتي من خلال ضرباتٍ عشر تردع قوى الظلمة المعاندة، أو كضربة كالتي نالها هيرودس فمات ميتة قاسيّة. وقد يعلن مجده من خلال حركة انفتاح في البصائر لإدراك النور الحقّ..
وفي كلّ هذا يريدنا الكنيسة الأمينة الخاضعة له على الدوام المطبّقة كلمته، الرافعة أيادٍ إلى العُلا دونما توقُّف.. فنحن الأيدي التي يستخدمها الله لتغيير العالم...
أمين
يا إله الحبّ الذي قدّم لنا مثالاً، بالموت الذبائحي، عن لامحدوديّة الحبّ
دعنا نذوب فيك لنخرج بك إلى العالم حاملين قبس حبٍّ لم يتذوّق العالم له مثيلاً
دع أيادينا ترتفع إلى أعلى.. إلى أعلى.. لتصر قناة نتقبّل منها مشيئتك
فيحلّ على قلوبنا السلام
ونعلنك للعالم مسرّة
نثق في قدرتك الإلهيّة يا إلهنا
جدّد مفاهيمنا أولاً
وأطلقنا لنعلنك نبعًا للراحة، لكلّ من فَقَدَ صلحه مع ذاته
ففقد صلحه مع الآخر وصار سهمًا جارحًا لقلوب آخرين..
أَنَا أَنَا هُوَ مُعَزِّيكُمْ.
مَنْ أَنْتِ حَتَّى تَخَافِي مِنْ إِنْسَانٍ يَمُوتُ
وَمِنِ ابْنِ الإِنْسَانِ الَّذِي يُجْعَلُ كَالْعُشْبِ؟
(إش 51: 12)